بعد منع التونسيات من ركوب الطائرات الإماراتية: و«تفاديا للتأويل والمغالطات» نقول:

غالبا ما يسعى المفكّر إلى اجتناب التعليق السريع على الأحداث تفاديا لتأويل يمكن أن يعدل بصاحبه إلى التجنّي على التاريخ،

لكن عندما يدرك أنّ جهودا تسعى إلى إخفاء حقائق، قد يكون عن قصد أو عن غير قصد، تتغيّر المنطلقات، ويصير من واجبه التنبيه والتحذير:

طالعت بجريدة البيان الإماراتية مقالا عنوانه « تفاديا للتأويل والمغالطات» ، وكاتبته السيدة منى بوسمرة، واعتبر هذا المقال حاملا لجرأة الحديث عن معضلة تونسية إماراتية، آثرت من خلالها المرجعية الإمارتية السكوت ونحت إلى التعبير عن موقفها عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يكون لها مبرّرات نجهلها، فكان لهذا المقال على الأقلّ جرأة في عرض هذه المسألة صراحة ودون مواربة، مثلما كان له الفضل في فهم النقاط الأساسية التي آلت إلى هذا التوتّر.

وبما أنّ القضية ثريّة في تعقيدها، وتطوّرت وتنامت سريعا، رغم جهود الديبلوماسية التونسية حتى تقلّل منها، فقد تناولها الجسم الاجتماعي التونسي من زوايا عديدة: من منظور القوانين الدولية لحقوق الإنسان، ومن منظور العنف المسلّط على المرأة، ومن منظور المرجعية التقليدية التي تحكم تصوّرنا لمكانة المرأة....
لكن ، لم أجد أثرا لهذه القضايا في مقال السيدة بوسمرة، وإنّما كان حديثا عن السيادة الإماراتية، وهذا أمر لا جدال فيه، وإشارات تحمل نغمة من الفخر بمساعدة هذا الشعب المسكين، وتبريرا لقرار شركة طيران، كأنّ هذه الشركة دولة داخل دولة الإمارات تحتكم بأمرها فترى من صلاحياتها إصدار قرارات تدعّم الأمن الداخلي لشعب الإمارات. وفي هذه المسائل لا

أستطيع أن أحتمي بالصمت وأترك الأمور تنساب انسياب الماء في الجداول، لأنّه ماء عكر لا أقدر ، أنا التونسية على تذوّقه :

تعوّدنا في تونس منذ انتفاضتنا أن نسميّ الأمور بأسمائها، وأن لا نتخفّى وراء السطور: فالجميع في تونس يدرك جيّدا أنّ قرار منع نساء تونس من ركوب الطائرة الإماراتية هو أمر سيادي وليس البتّة قرارا تجاريا، وإلاّ فمعناه أنّ كلّ شركة داخل الإمارات تولي وتعزل كما تشاء. وعلى هذا الأساس فإنّ ردّة فعل التونسيين لها مبرّراتها.
ليس بالخفيّ أنّ وسائل التواصل الاجتماعي هي الأشرس الآن والأسرع في إبلاغ المعلومة والصوت، وهي الثورة الإعلامية التي أثمرتها انتفاضة الشعوب بعد 2011، بل أضيف أنّ بقية وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف الورقية أو الإذاعات أو حتى القنوات التلفزية صارت مجبرة على اقتفاء أثر الأخبار في هذه المواقع إمّا بالتأكيد أو التكذيب، وهذا يقوم دليلا على انّ ثورة اجتماعية هي بصدد التنامي من خلال مواقع التواصل التي لا يمكن التحكّم فيها أو كبح جماحها أومراقبتها. والدليل على ذلك تواصل وزير الخارجية الإمارتي عبر هذه القنوات مستغنيا عن قنوات التواصل التقليدية.

نقطة ثالثة وأخيرة استوقفتني في هذا المقال، وتتمثّل في البحث عن تبرير لمنع نساء تونس امتطاء طيران الإمارات: تقول السيدة مدافعة: «حين نطالع المعلومات التي تشير إلى أن هناك أكثر من ثمانية آلاف داعشي تونسي، ومئات التونسيات يحاربن مع داعش». وأسئلتي: ماهو موقفك ممّا يقدّم من إحصائيات عن الدواعش في سوريا والعراق؟ وأنت أعلم الناس سيدتي أنّ التقارير في هذه المسألة متضاربة. ثمّ إن كان هذا القرار حكيما فلم لم يمنع السعوديون من ركوب الإماراتية وقد أثبتت بعض التقارير أنّ عددهم تجاوز 25 ألف داعشي. وهل اتخذت إجراءات حازمة ضدّ دواعش أوروبا، والتقارير أيضا أثبتت أنّ عدد النساء الأوربيات مرتفع جدّا، بينما نعلم جميعا أنّ الأوربيين والأمريكيين يدخلون الإمارات بدون تأشيرة. وقد يحتمل الظنّ أن يكون بعض هؤلاء قد دخل إليكم من حيث لا تعلمون. وعلى هذا الأساس، يجب أن نفهم أنّ مسألة الدواعش قضية معقّدة ولا يمكن التعامل معها بمثل هذه البساطة من سماح بالدخول أو منع، خاصّة أنّ جميع دول العالم تحمل في كيانها دواعش، وإن قلّ عددهم أو كثر فتلك قضيّة أخرى. ومن أدراك قد يكون من الذكور الفحول التونسيين الذين سمحتم لهم بالدخول دواعش مقنّعين.

وفي هذا السياق أريد أن أثير قضيّة ، هي الحافز الأساسي على أن أكتب هذا التعقيب على مقال السيّدة: قرأت نصّ منع « نساء تونس من الركوب» وأحرجني كثيرا، وتساءلت عمّن كتبه، فلا يمكن البتّة أن يكون محرّره موظّفا تقنيّا يشتغل في شركة تجارية، وإنّما شخصية مفكّرة تدري جيّدا ما تكتب.

ورد في النصّ حديث عن « الإناث» وليس حديثا عن المرأة. وهنا المفارقة في المرجعيات ، لأنّ لفظة الأنثى تستوقفنا نحن في تونس، ولكّنها لم تستوقف السيّدة بوسمرة. فلفظ الأنثى يعني الجماد والحيوان أيضا (راجع لسان العرب) ولا تعنينا نحن نساء تونس هذه الصفة، أتدرين لماذا؟ لأنّنا أفراد في المجتمع نفكّر ونقرّر مثل الرجال تماما. أمّا استعمال الأنثى فهو الدلالة على أنّها عنصر « مفعول به». وليتها تعود السيدة الكريمة إلى لفظة female في القواميس الأجنبية تدرك عندئذ أنّ وظيفة من تحمل هذه الصفة مقتصرة على الخصب والإنجاب لا غير.

ذهب بي تفكيري وأنا أقرأ نصّ المنع إلى مقاربات الفقهاء في حديثهم عن الأنثى وخاصّة في مجال المواريث، وأجدني مجبرة إلى أن أثير نفس المسألة في القرن 21 م : ما هو حكم الخنثى؟ واللفظ لا يحمل حكما، بل هو مصطلح ، خاصّة أنّ الدول المتقدمة أسندت إليهم مكانة في المجتمع . فهل فكّرت فيهم «شركة الطيران» ؟ وبما أنّها شركة وفية للمرجعية الإسلاموية فلا بأس بأن تطبّق نفس الأحكام قياسا على المواريث.. وعليه أن تجعل مكانا خاصّا لفحص المخنّثين من الذكور أو الإناث، شرط أن لا تطبّق الطرق الحديثة في الفحص وإنّما منهج الفقهاء في ذلك: يقول القرطبي: «يورّث من حيث يبول»، وعليه نقيس قضيتنا : الحكم بالذكورية بالفحص من حيث يبول. لكن المشكلة إذا كان كما قال ابن المسيّب «فإن بال منهما جميعا فمن أيّهما سبق، فإن بال منهما معا فنصف ذكر ونصف أنثى».. وهذا يقتضي اجتهادا جديدا في المسألة.

أثارتنا هذه الصفة، وأثارنا أيضا سكوتكنّ، أنتنّ، عليها وقبولكنّ أن تنعتن بها. ولكن أثارتني أنا بصفة أخصّ لأنّي تيقنت أن كاتب هذا النصّ لا يختلف في منطلقاته عن المقاربة الإخوانية، كما أثار هذا النصّ حفيظتي لأنّكم منذ زمن قليل أمضيتم على اعتبار الاتحاد العالمي لعلمائهم المسلمين منظمة إرهابية، ولكن هل أنتم متأكّدون حقّا بأنّ الإخوان منبوذون في الجسم الاجتماعي العربي؟ أكتفي بتذكيرك سيدتي ببيان الإخوان الذي أرسله إلى الأمم المتحدة في مارس 2013 ، بيان يرفض فيه اتفاقية السيداو وتعليله مرسوم في المقدّمة: «يتابع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يمثل جماهير علماء الأمة الإسلامية أوضاع المرأة في العالم بصورة عامة، وفي العالم الاسلامي بصورة خاصة، ويرى أن تحقيق العدالة، ومنح الحقوق الطبيعية لها هو إضافة حقيقية للمجتمع الذي يتكون من عنصرين أساسيين هما (الذكر والأنثى)».

وبقدرة قادر يتّحد كاتب النصّ الإماراتي مع رؤية الإخوان لمكانة المرأة، فهي ليست سوى أنثى، اسم جامع للحيوان والجماد وللرضيعة والصبية والولود والعجوز. وهكذا تمّ بتر نصف المجتمع الإسلامي، واعتباره مشلولا إن لم نقل حاملا لجرثومة الأنثى الأزلية التي ستشلّ ما تبقّى من هذا المجتمع المقعد.
وبقدرة قادر تنتصر الإمارات للإخوان، وتتبنّى مقالاتهم ومرجعياتهم، ثمّ يتحدّثون عن الدواعش وقد غاب عنهم أنّ الداعشية تتغذّى من عقولهم .. قد نكون في تونس نعاني ممّا نسب إلينا من عدد الدواعش لكننّا شعب يقظ ومتفطّن أتدرون لماذا؟ لأنّ نساءه هنّ المتيقّظات والحارسات لأمن هذا البلد، ولأنّ المجتمع بأكمله يسهم في بناء تونس الحديثة، ويعلم جيّدا أنّ البناء ليس بالسهل..

كان الله في عوننا، ولا نتوكّل سوى عليه لا على البشر.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115