كلّ يسعى لكسب الشارع، لجلب الأنصار. كلّ يجتهد، يصرخ حتّى يكون له قول مسموع ويد نافذة. أصبح الشارع سوق عكاظ. ساحة عراك. أصبح الشارع أداة. هو المرجع، هو الحاكم في البلاد. بالشارع تساس البلاد. تتّخذ القرارات. كثرت في الشوارع المظاهرات. لتحقيق غاياته، كلّ يدفع بجماعته، بعصابته الى الشارع، يصرخ، يقطع الطرقات...
اختلط الحقّ بالباطل وانتشر الزور وعظم النفاق. الكلّ يدّعي أنّه حامي حمى الوطن. أنّه العضد الأوحد للعمّال. السند الأكبر للفقراء. الكلّ يدّعي أنّه الناطق باسم الشعب. أنّه الحافظ، الباري. في تونس، بعد الثورة، أصبح الكلّ ثوّارا. أصبح الكلّ مناضلا مغوارا. كثر الكذب في البلاد. مثل الشارع، أصبحت قنوات التلفزة والاذاعات هي الأخرى منابر للصراخ، للمزايدات. في القنوات تشاجر وتجاذب ومغالطات. لكسب الأنصار، كلّ السبل مباحة. لكسب هوى الشارع، كلّ الوسائل حلال...
دعني من ضجيج الشوارع وهذا الصخب القائم والمزايدات. دعني من صراخ العامّة ورداءة القنوات. هذه كلّها ملوّثة. فيها بيع وشراء. فيها نفاق... أنظر من حولي. ها أنا هنا في البيت وحيدا. هانئ البال. قلق. لا أخرج الى الشوارع. لا أشارك الناس في ما لهم من رأي وبيان. قاطعت منذ زمان القنوات... أين أمشي للاتّصال بالناس وقد انقطعت منذ سنوات صلاتي بالشارع وبالقنوات ؟ يجب أن أنتهي ممّا أنا فيه من انزواء. انّما الانزواء انتهاء. بعد نظر، قلت: أمشي الى الندوات الفكريّة حيث يلتقي مختصّون ويلقي الأساتذة والخبراء محاضرات مشفوعة بنقاش...
كلّ يوم هناك في تونس ندوات. كلّ نهاية أسبوع، تلتئم هنا وهناك لقاءات. في هذه اللقاءات، تطرح قضايا وتناقش اشكاليّات. قبل الثورة، ما كانت هناك حركيّة مثل هذه التي أراها هذه الأيّام. كان الحاكم في ما مضى موصدا للأبواب، مغلقا للأفواه. يخشى تجمّع الناس. يخاف النقد والنظر المخالف. بعد الثورة، فتحت الأبواب جميعا والنوافذ ومشى كلّ في واد. الكلّ اليوم يتكلّم. يقول ما له من كلام. عمّ الكلام البلاد. كثر القول والسؤال والجواب. كلّ الناس يقولون. الكلّ يفتي في ما يعلم وفي ما لا يعلم. غدا الكلام ضجيجا عامّا. هي الفوضى الشاملة. لا أحد يسمع الآخر. ينظر. يتبيّن ما جاء في الكلام من بيان. ضاع الكلام. سقط الفهم وانسدّ الاتّصال. قبل الثورة، كان السكوت قاعدة. بعد الثورة، أصبح الصياح قاعدة عامّة...
اليوم، اقتنعت بأنه يجب أن أخرج الى الشارع وأن ألتقي بالعباد لما في اللقاء بالآخر من جدوى واضافة. بعد نظر، قرّرت أن أحضر ملتقى تنظّمه «جمعية تونس الفتاة» تحت عنوان «في الشخصيّة التونسيّة». رغم ما كان في قلبي من ريبة ممّا قد ألقى لدى الناس من تفاهة وغباء، قلت لنفسي هذا موضوع جميل، طريف. النظر في من أنا وكيف بنيت والى أين أمشي هي ولا شكّ اشكاليّة مهمّة، متعدّدة الأبعاد. سماع المتدخّلين، والمتدخّلون في ما أرى كثر وأهل اختصاص، سوف يمكّن النظر من ادراك الاشكال وسوف يسلّط الأضواء على ما خفي في هذا الأنا المتغيّر الأحوال. يجب أن أحضر هذه الندوة ولسوف أرى ما سوف يكون من تعريف ومن ضوابط.
في صباح السبت، تهيّأت. قصدت نزل «النوفوتال» بالعاصمة. أخذت معي قلما وأوراقا. قرّرت حضور فعاليّات الملتقى حصّة الصباح. أنا لا أقدر على متابعة الندوة وما سوف يقال عشيّة وصباحا. في العشيّات، يصيبني تعب ويشدّني ارهاق. في العشيّات، أفضّل البقاء في البيت. لا آتي شيئا في البيت. أنام نحو ساعة. أتابع ما في الشبكة من أحداث وتفاهات. أقرأ بعض الأوراق. أمشي وأجيء. أنتظر الليل. أحبّ الليل وفي الليل أنام. أنتهي من الدنيا. أحلم بما كنت وبما كان...
هذه هي المرّة الأولى، منذ زمان، أحضر ندوة ثقافيّة وأشارك الناس ما يتبادلون من نظر. خلال سنوات عدّة، أفضّل البقاء وحيدا. صباحا وعشيّة. قلت لنفسي ان أعجبني اللقاء وحصلت لي فائدة سوف أبقى العشيّة. سوف أحضر مستقبلا الندوات. لن أعود الى الندوات ان لقيت في هذه بؤسا ورداءة. المهمّ عندي ليس ما سوف يقوله المتدخّلون من كلام ثقيل ومن فكر صواب. الأهمّ عندي هو أن أجد في ما سوف يقال نشوة وخيالا. أن يحملني الكلام طيرا الى السماء، أن ينشرح صدري وأزهو وأعود الى البيت وفيّ غبطة وامتنان... لا تهمّني الأفكار ولا ما كان في النظريّات من عمق ومن احكام ولا ما جاء في التاريخ من حدث ومن جزئيّات. الأهمّ عندي هو ما كان في الكلام من وضوح ونظام، من دقّة، من رشاقة. الأهم عندي، ما يحمله الكلام من نسج، من ابداع، من خيال... الكلام صناعة وليس هو أفكارا. من يتقن صناعة الكلام له قدرة على إحكام المنهج، على إتقان السرد، على شدّ الفكر والدفع بالخيال. سحر الكلام في نسجه، في ربط الأجزاء، في انتقاء المفردات. لمّا تأتيك المعاني تنساب، عاريّة، متخفّية، صورا وأحلاما...
لمّا كنت أدرّس في الجامعة، كنت أسعى حتّى يكون الدرس خفيفا، مرحا. حتّى يكون في الكلام شرح وانشراح. فيه فهم وحيرة وسؤال. ان سئمت الدرس وأصابني ضجر، تعثّر الكلام وساء الأداء. عندها أرى في أعين الطلبة قلقا ونعاسا. في كلّ حصّة، كنت أجتهد حتى أكون والطلبة في زهو، في استعداد. فبلا امتاع وبلا مؤانسة، لن يحصل فهم ولن يستقيم كلام. التدريس صناعة. في القسم، أحيانا أوفّق ويكون الدرس ممتعا، خفيف الظلّ ومرّة أفشل وأقضي والطلبة ساعة عذاب...
(يتبع)