ولئن بقي الحضور الإعلامي والعام لهذه الوجوه الابداعية محتشما قبل الثورة فإنها ستكتسح الساحة بعد الثورة لتصبح الأصوات الطاغية والمجددة على الساحة الثقافية لدرجة أنها أثارت بعض الاحتجاجات والنقد من قبل بعض المؤسسين - وسنهتم في هذا التقديم ببعض الأصوات الثقافية الجديدة - وأول صوت سنهتم به في هذا التقديم هو بندرمان.
لئن عرفت الساحة الشبابية وخاصة المجموعات الناشطة على الشبكة الاجتماعية أو les blogueurs بندرمان قبل الثورة بأغانيه الراديكالية والناقدة للاستبداد السياسي فإننا سنكتشف هذا الصوت خاصة بعد الثورة بأغانيه الساخرة والنقدية ليصبح أحد أيقونات الرفض الشبابي والحامل لأمل مواصلة المد الثوري الذي انطلق مع انتحار البوعزيزي ليمتد الى أغلب البلدان العربية في ثورات شبابية أوقعت بأعتى الديكتاتوريات في منطقتنا.
ستكون بدايات بندرمان في المدينة العتيقة وأحيائها حيث سنوات الطفولة - وستكون البدايات خاصة مع السياسة التي طرقت أبوابه دون استئذان - فصديقنا من عائلة سياسية مناضلة منذ عقود - فالجد كان من مشائخ الزيتونة - وهو من مناضلي الحركة الوطنية وعرف بانتمائه اليوسفي - إذ أن السياسة سيعرفها في المحيط العائلي - فالأم كانت مناضلة يسارية لكنها توفيت وهو صغير في السن فلم يحظ بحنانها طويلا.. لكن الاكتشاف والانغماس في السياسة حد النخاع سيكون في خطى الوالد القائداليساري المعروف والذي سيلعب دورا سياسيا كبيرا على الساحة الوطنية وسيتعرف مع الوالد على أغلب القيادات السياسية في بلادنا.. سيعرف كذلك معه المظاهرات ثم اللقاءات السرية في غفلة من البوليس لما اضطر الوالد للدخول للسرية لمواصلة عمله السياسي بعيدا عن أعين السلطة...
وقد عرف بندرمان في هذه الفترة أغلب أبناء القيادات السياسية ولئن خلق عندهم انغماس الآباء والأمهات في العمل السياسي نفورا ورفضا لهذا العمل فقد ولّد عند بندرمان شغفا واهتماما بالعمل السياسي وستنطلق مغامرته مع العمل السياسي منذ الصغر فسيبدأ بالانخراط في الحزب الاشتراكي اليساري المنحى والذي كان سريا وسيلتحق عند دخوله للجامعة بالاتحاد العام لطلبة تونس ليصبح سريعا أحد مناضليه النشطين وسيساهم في بيع جريدة الموقف لسان حال الحزب الاشتراكي التقدمي عند محاولة خنقها من طرف السلطة وسيساهم بندرمان خلال سنوات الجمر تلك في المظاهرات وكل الأنشطة السياسية ليعرف المتابعة البوليسية وحتى الايقاف وقضاء ساعات طويلة في مراكز البوليس...
وستكون هذه التجربة هامة في حياة بندرمان حيث ستمكنه من التفكير في طريقة ومنهجية العمل السياسي في الأحزاب اليسارية في بلادنا فقد حافظت هذه الأحزاب على المنوال الستاليني واللينيني الصلب والذي يتميز باحترام كبير للمركزية ولم تكن هذه الأحزاب تعطي فرصة للأفراد للتعبير عن أحاسيسهم وشخصياتهم وكان المناضل المثالي هو المناضل الملتزم والعابس والمتجهم أحيانا والذي يضع كل ثقله في العمل السياسي ولا يفسح أي مجال للنكتة والفذلكة والمزاح ولم تكن هذه الوضعية وهذا المنهج ليحصل على موافقة شاب ابن عصره كبندرمان فانتقد هذا الخيار ورفضه ودعا الى فهم آخر ومنهجية جديدة في العمل السياسي منفتحة على تطلعات الشباب وتحمل آماله وأحلامه.. وبصفة خاصة سيدعو بندرمان الى فتح الأحزاب اليسارية على جماهير الشباب المهمش في الأحياء الشعبية الجديدة كما سيعمل على إخراج العمل السياسي من بوتقة النضال السياسي والفكري وانفتاحه على أشكال جديدة من العمل الجماهيري كالفن والابداع والغناء...
وسيضع بندرمان تجربته وخاصة بداياته في المجال الفني في خدمة الرفض والمعارضة الراديكالية للاستبداد.. وقد بدأت علاقة بندرمان مع الفن والابداع منذ الصغر فتعلم العزف على بعض الآلات الموسيقية ليتفرغ ويتخصص في آلة القيثارة وقام بتلحين أولى أغانيه سنة 2008 بعنوان «الرديّف» لدعم تحركات أحداث الحوض المنجمي.
وسيواصل بندرمان الى جانب نشاطه السياسي العمل في المجال الفني ليلحن قبل أسبوع من انتخابات 2009 أغنية هزلية جديدة ونقدية للنظام القائم تحت عنوان «99 ٪» أغنية عن النتائج المنتظرة لهذ الانتخابات واثر هذه الأغنية ستوقف السلطة والد بندرمان ثم ستأتي أغاني جديدة كـ«System» ثم أغنية ستثير كلماتها غضب سيدة القصر آنذاك حيث يقول فيها بندرمان: «نبنيوا الكياسات والقناطر والمطارات خاطر مرت الجنرال تحب تعمل بيسين في الدار...».
وقد ساهم عديد الأصدقاء وهذه الطفرة الشبابية الرافضة للاستبداد في العمل الفني لبندرمان ومن ضمن هؤلاء يذكر بندرمان غسان العمامي الذي ساعده في كتابة أغانيه الأولى كأغنية «حبيبة تشاو» ويشير بندرمان الى أن أغنية جينيريك فيلم السهيلي في شريط «الشقواق» هي من أكثر الأغاني التي أثارت غضب وسخط السلطة آنذاك ويقول في هذه الأغنية: «البغل يعيّط للحصان يا خالي والصيد اذا خرف يبربشوه الذراري» ثم يقول في إشارة الى خلق بنك الزيتونة من طرف صهر الرئيس «المال اللي ماشي للشعب الزيتونة أولى بيه» وهذه الأغاني كانت وراء منع الفيلم والذي لم يعرض الا داخل الفضاءات المغلقة وداخل مقرات الأحزاب السياسية المعارضة كحركة التجديد.
وهذا الخيار الفني المناضل والملتزم والهزلي على طريقة صالح الخميسي وأغانيه المشهورة كـ«أحسن نوارة تقطفها» و «يا خبيثة يا دبوزة» كان وراء منع بندرمان من العروض في تونس وكانت العروض القليلة التي أمكنه القيام بها في الخارج والتي شهدت تواجدا كبيرا للبوليس السياسي...
وسيكون لهذه الحركية السياسية والفنية تأثير كبير على تشكيل مجموعة الناشطين في الشبكة العنكبوتية والاجتماعية les blogueurs والتي ستلعب دورا هاما في نمو حركة الرفض والثورة ضد الاستبداد والدكتاتورية وسنجد ضمن هذه المجموعة العديد من الأسماء المعروفة اليوم كأميرة اليحياوي وغسان العمامي وعزيز العمامي وسليم عمامو وهيثم المكي وسفيان الشورابي ولينا بن مهنى وآخرين...
وستقطع هذه المجموعات مع الحذر الذي ميز الأحزاب اليسارية التقليدية أيام الثورة لتخوض حرب اللارجعة مع النظام وسيساهم بندرمان في كل التحركات التي قادت الى ثورة 14 جانفي.. فسيساهم في وقفة الفنانين أمام المسرح البلدي يوم 11 جانفي 2011 للتنديد بالعنف البوليسي وسيقع اختطاف بندرمان في تلك الأيام الثورية ليتم تقييده وتركه في احدى المقابر..
وسيشكل انتصار الثورة وهروب الديكتاتور يوم 14 جانفي حدثا هاما ومؤسسا لهذه المجموعات من الناشطين على الشبكة الاجتماعية فسيكبر الحلم ببناء مجتمع جديد ينفي التسلط والاستبداد وينتصر لمبادئ الحرية والتمرد والثورة.. ولن يقتصر هذا الحلم على المجال السياسي بل سيمتد كذلك إلى المجال الفني والابداعي وسيمكن هذا الزخم الثوري بندرمان من انتاج أهم أغانيه المفعمة بحب تونس بعنوان «كافيشانطة» والتي ستقوم لا فقط في انتاج أغانيه بل كذلك في التعريف وانتاج عديد الأصوات في الساحة الفنية الجديدة لما بعد الثورة ومن أهم الأغاني التي سيقدمها بندرمان في هذه الفترة نذكر «أنت الصوت» و«غناية ليك» كما سيقوم بحفلات موسيقية وفنية في كل المناطق والجهات...
الحديث مع بندرمان شيق وطريف فالشاب صاحب نكتة لاذعة ومتميز في عمله الفني والسياسي وهذه اللقاءات التي أقضيها مع بندرمان تمكنني لا فقط من الاستمتاع بحديثه بل كذلك من فهم ظاهرة التمرد الشبابي والسخط على ما آلت إليه الأشياء بعد الثورة وعلى مسك جانب الخيبة والحسرة والانكسار لعدم قدرتنا على تحقيق آمالهم وأحلامهم..
وبالرغم من الرفض وهذه الانكسارات فإن بندرمان ومجموعة الشباب الناشطين على الشبكات الاجتماعية تواصل حمل التمرد والثورة على مستويين: المستوى الأول يهم الجانب الفني فقد خلق هامش الحرية ما بعد الثورة ديناميكية ابداعية وفنية كبيرة ومهمة جدا وقد أعطت هذه الديناميكية للساحة الشبابية مجالا هاما للخلق والتجريب والابداع في كل مجالات
الفنون كالرسم والموسيقى والسينما والمسرح .. وساهمت هذه الحركية في ظهور جيل جديد من المبدعين ككوثر بن هنية وفارس نعناع ووليد مطر في السينما وسيرين ڤنون وليلى طوبال في المسرح وعاطف معطا الله وانتصار بلعيد في الرسم والذي يقود اليوم ثورة فنية كبيرة في كل مجالات الابداع وسيكون بندرمان فاعلا مهما في المجال الموسيقي حيث سيهتم بتجارب الموسيقى الشعبية في بلدان الحوض المتوسط كالفادو في البرتغال والفلامنكو في اسبانيا والريبيتو في اليونان والشعبي في الجزائر ويحاول الأخذ منها في ابداعاته وتجاربه الموسيقية الجديدة مع المحافظة على الروح السياسية وجانب السخرية الذي ميز أعماله..
أما الجانب الثاني الذي يميز الساحة الشبابية فهو مواصلة الرفض والتحدي على المستوى السياسي لاعادة بريق البرنامج والمشروع الثوري فقد كان تقييم هذه الظاهرة الشبابية للمسار الثوري ووهجه فقد كان تقييم هذه الظاهرة الشبابية للمسار الثوري سلبيا واعتبروا أن هذا المسار شهد انتكاسات وتراجعات كبرى فاتجه اهتمامهم و عملهم اليوم إلى تجميع الشباب في تنظيمات موسيقية لتكوين شباب الغد وإعادة الأمل لهم وهذا الشغف الحب لتونس.
الحديث مع بندرمان ذو شجون وهام باعتبار أهمية المشروع الفني والتجربة الفنية الجديدة والتي تعمل على تطوير المشروع الثقافي التونسي واعطاء حيوية جديدة لروحه الثائرة والناقدة ولكن بندرمان ليس ظاهرة فنية فقط بل كذلك سياسية باعتباره يحمل ثورة الشباب لا فقط على السلطة بل كذلك على الأحزاب وحتى الثورية منها وهو بذلك ينبئ بالثورات القادمة...