حديث الأنا في اللصوصيّة العامّة والمشتركة

في هذا البلد وهذا البلد هو بلدي، هناك لصوصيّة عامّة، مشتركة. في تونس، أصبحت اللصوصيّة خصلة من خصال البلد. سمة من سماته. كلّ يوم، تحصل سرقات متعدّدة. في كلّ حكاية، هناك لصوص تسرق. في كلّ مؤسّسة، في كلّ ادارة، في كلّ بقعة، في الشمال، في الساحل، في الجنوب هناك لصوصيّة مفزعة، تتكرّر. أصبحت تونس بلد السرّاق. الكلّ

فيها يسرق، يخطف، يستأثر... هل أنا أبالغ؟ قد يكون ولكنّي أرى السرّاق وقد انتشروا. أحيانا، أعتقد أنّ التونسيين جلّهم على السرقة جبلوا...

دعني من أهل السلطة وفي أهل السلطة لصوصيّة قائمة، منتشرة. غدت اللصوصيّة عند أهل الحكم وعند الشعب أيضا قاسما مشتركا. كلّ حسب موقعه، حسب طول يده، حسب فرصه... يسرق. في صناعة السرقة، لا فرق بين الغنيّ والفقير، بين التقيّ وغير التقيّ، بين المسنّ والشابّ العتيّ، بين رجال السياسة ورجال الدين... انتشر الوباء بين الناس وعمّ. الكلّ يحمل بين أضلعه المرض...

في السكك الحديديّة، لمّا كنت فيها أشتغل، سرق عون الحراسة ما كان في مكتبي من كنّش وقلم. سرق حنفيّة المرحاض وترك الماء يجري يومين وليلة. كلّ شيء محلّ سرقة. الحواسيب، آلات الرقن، تجهيزات السكك وأخشابها وحديدها وجميع الأدويّة. في المعهد الأعلى للتصرّف، مرّات عدّة، سرقت تجهيزات الفيديو رغم أقفالها الحديديّة. في تونس الجوّيّة، يسرق الأعوان والاطارات كلّ ما توفّر. هذه عطورات وهذه أغطيّة وهذا طعام معلّب أو لوز أو ماء معدنيّ. في شركة الكهرباء، يسرق الموظّفون ما أمكن. هذا يبيع عدّادات والأخر أسلاكا وثالث ما كان في المخازن من بضاعة مختلفة... لن أتحدّث عن الصفقات وما فيها من زور وتحيّل ولا عن الانتدابات وما فيها من غشّ ومحاباة. في المستشفيات، الكلّ تقريبا يسرق. هذه أدويّة وهذه أسرّة وهذه معدّات لا تخطر لك على بال ولا تدري ان هي تباع في السوق... كلّ شيء يسرق ويباع سرّا وعلانيّة. في سهول الساحل، يعمد اللصوص الى حبوب الزيتون يسرقونها ليلا ونهارا بل أحيانا يقصّون أشجار الزيتون...

سرقة أخيرة كلّها غباء وجهل. كان للرجل ضيعة فلاحيّة في الشمال الغربيّ له فيها بقر ممتاز اشتراها بأثمان عليّة وأشجار ثمار وزيتون زرعها بعد كدّ وعناء. غداة الثورة، دعا سياسي من اليسار، من الجهة، أن يذهب الناس اليها ويفتكّوها وهذه، في ما قال، رزق آبائهم وأجدادهم. هجم العرب على الضيعة المثاليّة ونهبوها وافتكّوا أبقارها المميّزة. في لوعة، قال الرجل للغزاة وهم يفتكّون بقره أن عليهم أن يأخذوا مع البقر العلف وأوصاهم بالبقر خيرا وعناية. في الغد، ذبحت الأبقار الهولنديّة وبيع لحمها بأبخس ثمن. ترك الرجل الضيعة وأكل الخراب من بعده الضيعة...

أصبحت السرقة في هذا البلد رياضة وطنيّة. عندنا، السرقة فعل عاديّ يأتيه العامّة والخاصّة... ما الضرر في السرقة وما العجب والناس كلّهم جميعا يسرق؟ السرقة في هذه الربوع ضرورة. سلوك مشترك. كلّ يوم، أنا وأنت والآخر محلّ سرقة. كلّ يوم، أنا وأنت والآخر نجتهد لنستأثر، لنسرق في الشغل، في الطريق، في الجباية، لنتحيّل على السلط، على الناس، على الأهل والأحبّة. نحن دوما نترصّد، نتربّص، ننظر كيف المراوغة، كيف المخادعة...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115