قد يبدو سابقا لأوانه اليوم وفي خضم الجدل الذي صاحب عدم إصدار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين موقفا في ما يتعلق بمدى دستورية قانون المصالحة الإدارية الحديث عن اختصاص المحكمة الدستورية التي لن يكون مخاض تشكيلها سهلا. غير أن رجل القانون مطالب أحيانا باستباق الزمن حتى لا يسبق السيف العذل. فعندما قدرنا أن نشر الآراء المخالفة لأعضاء المحكمة الدستورية هو من بين الحلول الممكنة لإضفاء مزيد من الشفافية على الإجراءات القضائية، لم يقع الالتفات إلى ذلك صلب قانون المحكمة الدستورية وقد تجد المحكمة الدستورية نفسها لاحقا في نفس الحرج الذي وجدت فيه الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين بمناسبة نظرها في مشروع قانون المصالحة الإدارية.
واليوم ها نحن نعود لنحاول أن نستبق الزمن والأحداث فيما يتعلق بامتداد الوظيفة الرقابية للمحكمة الدستورية عند التعهد بمشاريع القوانين علما بان هذه المحكمة لا تزال تنتظر التكريس على ارض الواقع بعد أن تجاوزنا الآجال الدستورية في ما يتعلق بإنشائها لأسباب لا فائدة من العودة إليها.
وقد جاء بالدستور في قسم المحكمة الدستورية المندرج ضمن باب السلطة القضائية إن هذه المحكمة «تختص دون سواها بمراقبة دستورية».
- مشاريع القوانين بناء على طلب من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو ثلاثين عضوا من أعضاء مجلس نواب الشعب…».
كما نص الفصل 121 فقرة ثانية من الدستور على ما يلي « ينص قرار المحكمة على أن الأحكام موضوع الطعن دستورية أو غير دستورية، ويكون قرارها معللا وملزما لجميع السلطات».
أما القانون الأساسي عـدد 50 لسنة 2015 مؤرخ في 3 ديسمبر 2015 يتعلق بالمحكمة الدستورية فإنه ذهب أبعد من ذلك بأن أكد صلب فصله 52 بأنه « لا تتعهد المحكمة إلا في حدود ما وقع إثارته من طعون.» أما الفقرة الثانية فأكدت أنه « إذا قضت المحكمة بدستورية مشروع القانون فإنها تحيله إلى رئيس الجمهورية لختمه أو لرده حسب الحالة».
وبمقارنة هذه الأحكام الواردة بالدستور وبالقانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية فيما يخص امتداد رقابة المحكمة الدستورية على مشاريع القوانين مع الأحكام الدستورية وكذلك الواردة بالقانون الأساسي المتعلق بالمحكمة فيما يخص الدفع بعدم الدستورية أو مراقبة دستورية القوانين نلاحظ أن الدستور كان أكثر وضوحا وصرامة في ما يتعلق بامتداد الرقابة عن طريق الدفع حيث أكد صلب فصله 123 أنه « عند تعهد المحكمة تبعا لدفع بعدم دستورية قانون فإن نظرها يقتصر على المطاعن التي تمت إثارتها».
وبصورة أولية نعتبر إن اقتصار المحكمة الدستورية على النظر في المطاعن التي تمت إثارتها من طرف الخصوم في مادة الدفع بعدم الدستورية أو دستورية القوانين تبدو منطقية باعتبار أن الأمر يتعلق بخصام يهم الأطراف أو الخصوم في نزاع قد لا يتعلق موضوعه الأصلي بدستورية القوانين وأن القاضي يفصل مبدئيا في النزاع في حدود ما يطلب منه من قبل الخصوم غير أن اعتماد نفس الحل بخصوص مادة الرقابة القبلية أو على مشاريع القوانين يبدو قابلا للنقد وموجبا لاجتهاد القاضي الدستوري عند تشكل المحكمة الدستورية لاحقا رغم وجود بعض الأحكام صلب الدستور وكذلك صلب القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية توحي بان نية المشرع التأسيسي والأساسي اتجهت نحو سحب نظام امتداد اختصاص المحكمة الدستورية في مجال الرقابة عن طريق الدفع على امتداد اختصاصها في مجال الرقابة القبلية على مشاريع القوانين وذلك لعدة أسباب:
• السبب الأول:
هو خصوصية دور القاضي الدستوري عند انتصابه للنظر في دستورية مشاريع القوانين وهي رقابة قبلية غايتها المبدئية والأصلية هي تخليص أو تطهير النص التشريعي من الشوائب غير الدستورية ومنع تسرب قواعد غير دستورية أي مخالفة لنص القانون الأعلى في الدولة وهو الدستور صلب المنظومة القانونية للدولة. فالرقابة القبلية على مشاريع القوانين تتميز بصبغتها الموضوعية باعتبار أن الأمر لا يتعلق بنزاع بين أطراف مصالحها متضاربة وإنما بطرح عدم دستورية مشروع القانون من طرف جهات عرض متنوعة لا تبحث مبدئيا عن مصلحة ذاتية من الطعن وإنما يسمح لها بممارسة هذا الاختصاص باعتبارها معنية بضرورة احترام القواعد التشريعية لإحكام الدستور.
• السبب الثاني:
هو أن اقتصار القاضي الدستوري عند النظر في دستورية مشاريع القوانين على ما تمت إثارته من طعون طبقا للفصل 52 من القانون الأساسي المنظم للمحكمة الدستورية قد يكون متعارضا أو على الأقل غير متلائم مع أحكام الفصل 102 من الدستور الذي يؤكد أن « القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور..» وكذلك الفصل الأول من القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية الذي جاء فيه «المحكمة الدستورية هيئة قضائية مستقلة ضامنة لعلوية الدستور.» وعليه فإنه يبدو من غير المنطقي أن يقتصر دور القاضي على النظر في الدستورية في حدود ما تمت إثارته من طعون وأن يغمض القاضي الدستوري عينيه عن خروقات أخرى للدستور موجودة بالمشروع المعروض عليه حتى ولو كانت بديهية اللادستورية. فإذا كان القاضي الدستوري هو حامي الدستور وإذا سلمنا بأن هذه الوظيفة تعتبر وظيفته الطبيعية خاصة وأن الفصل 120 من الدستور يؤكد أن المحكمة الدستورية تختص دون سواها بمراقبة دستورية مشاريع القوانين فكيف يمكن لنا أن نقبل أن تمتنع المحكمة الدستورية عن الإعلان أو الحكم بعدم دستورية حكم أو مجموعة من الأحكام التشريعية عرضت عليها صلب مشروع قانون تم الطعن في بعض أحكامه التي تثير شبهات دستورية ولم يقع الطعن في أحكام أخرى تثير نفس الشبهات إن لم تكن أكثر خطورة.
• السبب الثالث:
هو أن تخلي أو امتناع السلطة التأسيسية الأصلية عن تكريس مجالات للعرض الوجوبي خاصة في مجال القوانين الأساسية يحد إلى قدر كبير من فعالية الرقابة القبلية لدستورية القوانين ويفتح المجال أمام تعدد الدفوعات اللاحقة بعدم الدستورية وهو أمر من شأنه، من جهة أولى أن يعطل عمل المحكمة الدستورية لاحقا كما أنه يتعارض مبدئيا مع الهدف من الرقابة القبلية لمشاريع القوانين والتي تعتبر بطبيعتها رقابة وقائية وليس من الوجيه أن نحصر الوقاية من الخروقات الدستورية فيما تمت إثارته من قبل جهات العرض. إن تغاضي السلطة التأسيسية عن تكريس مجالات للعرض الوجوبي في مادة مراقبة دستورية مشاريع القوانين يجعل من تدخل القاضي الدستوري لتوسيع مجال اختصاصه مادام النص الدستوري قابلا للتأويل ولا يمنع ذلك صراحة أمرا مستحبا ومشروعا وذا فعالية ونجاعة خاصة وان الغاية القصوى نبيلة وهي حماية الدستور.
• السبب الرابع:
هو أن انتصاب القاضي الدستوري كحام موضوعي للدستور في نزاع ذي طبيعة خاصة واستثنائية قد يبدو للبعض منتقدا باعتبار أنه يفتح الباب أمام حكومة القضاة وينحرف بالقاضي بدوره عن حدود اختصاصاته المضبوطة دستوريا وبالقانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية غير أن نفس هذا النقاش طرح في فرنسا بخصوص التعهد التلقائي للمجلس الدستوري الفرنسي فيما يعرف بالوسائل التي يثيرها المجلس الدستوري من تلقاء نفسه.
Les moyens et conclusions soulevées d’office par le conseil constitutionnel ويبدو أن التصور الأولي الذي كان سائدا وهو أن المجلس الدستوري الفرنسي هو حام للبرلمان:
le conseil constitutionnel est gle gardien du Parlement
تم تجاوزه في اتجاه الإقرار بأن المجلس الدستوري هو الحامي للدستور وأن الاتجاه الغالب بالنسبة للهيئات القضائية ( رغم خصوصية طبيعة المجلس الدستوري الفرنسي) هو الرغبة في توسيع مجال نظرها وتدخلها كلما كان ذلك لا يتعارض مع منطوق النصوص المنظمة لها وروحها.
هذا فضلا عن أن بعض الهيئات القضائية في تونس وكذلك في فرنسا استعملت تقنيات قضائية وإجرائية قريبة من التعهد التلقائي مثل إثارة المسائل التي تهم النظام العام تلقائيا ولو لأول مرة أمام التعقيب مع الاختلاف طبعا في طبيعة كل من النزاع الدستوري وبقية النزاعات العادية أو الإدارية وخصوصية مجال تدخل كل قاض.
• السبب الخامس:
هو أن بعض التجارب المقارنة تؤكد على أن المحاكم الدستورية غير مقيدة دائما بما تقع إثارته من مطاعن من قبل الخصوم في النزاع الدستوري وسوف نقتصر على مثالين في القانون المقارن وهما المحكمة الدستورية النمساوية ، ولكن خاصة المحكمة الدستورية في ألمانيا والتي يمكن أن تتعهد بصورة تلقائية في كل مسألة تثير شبهة اللادستورية وذلك سواء كان العرض نابعا من الخصوم أو من جهات سياسية وهذا ما يستشف من الفصل 78 من القانون الأساسي المنظم للمحكمة الدستورية الألمانية ويتم الاعتماد خاصة على الطبيعة الخصوصية «للنزاع الدستوري» لتبرير هذا التوجه إضافة إلى المعطيات التاريخية الخاصة بالتجربة الألمانية .
• السبب السادس والأخير:
هو أن الفصل 121 من الدستور لم يكن حاسما في ما يتعلق بامتداد رقابة المحكمة الدستورية عند ممارسة الرقابة القبلية على دستورية مشاريع القوانين حيث اقتصر على التأكيد على أنه « ينص قرار المحكمة على أن الأحكام موضوع الطعن دستورية أو غير دستورية.» ولم يمنع صراحة المحكمة من التوسيع في مجال نظرها والحكم على مدى دستورية باقي أحكام مشروع القانون خاصة وإن إعلان المحكمة عن عدم دستورية فصل أو مجموعة من فصول القانون قد يكون له تأثير على مدى دستورية باقي الفصول أو أنه قد كان مرتكزا على فهم وتأويل لباقي فصول مشروع القانون.
علما انه لما كانت إرادة المؤسس واضحة في اتجاه الاقتصار على المطاعن التي تمت إثارتها من قبل الخصوم أشار إلى ذلك صراحة صلب الفقرة الأولى من الفصل 123 في مادة الدفع بعدم الدستورية.
في الختام يبدو إن انتصاب القاضي الدستوري كحام للدستور يكسبه مشروعية وظيفية هامة ومتميزة تفتح أمامه بابا واسعا للاجتهاد والإبداع لأن مراقبة دستورية القوانين لم تعد اليوم مجرد عملية تقنية وإنما تصورا لما يجب أن تكون عليه دولة القانون الحامية للدستور وللحقوق والحريات. إن دور التركيبة الأولى للمحكمة الدستورية سوف يكون حاسما وتاريخيا في إرساء دعائم فقه قضاء دستوري جريء متناغم مع الدور الخطير للمحكمة الدستورية في ضمان التوازن بين السلط وحماية الحقوق والحريات وخاصة منها الفردية وتأسيس دولة الحق والعدل الفعلية التي طال انتظارها والتي تتحمل التركيبة الأولى للمحكمة الدستورية مسؤولية تاريخية في إرسائها.