أشرت منذ بداية في هذه المقالات إلى أن الدراسات التاريخية أكدت على دور المصلحين والمفكرين والقادة السياسيين لكنها تناست أو تجاهلت دور المبدعين والفنانين في بناء المشروع السياسي التونسي وخصوصيته.
وفي رأيي فان المشروع والتجربة السياسية التونسية والتي بدأت مع النهضة في السنوات 1831 لتتواصل مع دولة الاستقلال التي قامت بدور كبير في تحديث المجتمع ثم ليتواصل هذا المشروع مع الثورة والتي فتحته على مبادئ الحرية والديمقراطية يرتكز على ثلاث ركائز أساسية .الركيزة الأولى فكرية حيث قام مفكرونا ومنهم احمد ابن أبي ضياف والطاهر الحداد إلى هشام جعيط إلى عياض بن عاشور وعبد المجيد الشرفي بتثوير الفكر التقليدي والموروث الفكري لسنوات الانحطاط.وقد قام مفكرونا بنبش هذا الموروث ونقده والقطع معه من خلال فتح مجالنا الفكري والثقافي على قضايا الحداثة والأنوار وعلى مبادئ حرية الفكر واستقلاله عن كل السلط.
الركيزة الثانية لمشروعنا السياسي هي النخبة السياسية والتي تميزت بانخراطها في مشروع جذري يهدف إلى القطع مع المؤسسات السياسية البالية والقوانين التقليدية لبناء مؤسسات جديدة تلتئم مع روح العصر ومنفتحة على تجارب البلدان والأمم الأخرى- وتشكل هذه القناعة وهذا التوجه قاسما مشتركا لكل النخب السياسية التونسية من خير الدين إلى رواد الحركة الوطنية وقادة دولة الاستقلال إلى النخب الجديدة التي برزت اثر الثورة.
أما الركيزة الثالثة فهي حركة الإبداع والفن والتي أعطت لتجربتنا التاريخية بعدها الجمالي ومكنتها من الغوص أكثر في موروثها الثقافي الإبداعي وفتحه على تجارب أخرى تقطع مع السائد .
اذن لعب الفكري والسياسي والإبداعي دورا هاما في خلق تجربة سياسية ومشروعا سياسيا متفردا وخصوصيا يرتكز على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والمدنية.
ونواصل في هذه السلسلة من المقالات تقديم بعض الوجوه الإبداعية لإنارة مساهمتها في هذه التجربة وتفردها وسنخصص هذه الحلقة للصديقة زينب فرحات المشرفة على إحدى أهم تجارب الفضاءات الخاصة وهو فضاء التياترو والذي يحتفل هذه السنة بالذكرى الثلاثين لانبعاثه.ولعل أهمية تجربة زينب تكمن في رأيي في جانبين مهمين سأحاول تسليط الأضواء عليهما في هذه المقالة.الجانب الأول يهم تجربة التياترو وظهور الفضاءات المستقلة التي ستحاول فتح مجال التنفس والتعبير بعد انغلاق الفضاءات الرسمية على الثقافة المغايرة.
أما الجانب الثاني فيهم نقطة التقاء محورية بين النضالات النسوية ممّا سيساهم في بناء خصوصية وتفرد المشروع الثقافي التونسي.
لكن لنعد إلى البدايات وسنوات الطفولة والشباب لهذه الثائرة الرقيقة.ولدت زينب فرحات في تونس العاصمة لمعلم واحد قادة الحركة الوطنية المرحوم الصحبي فرحات والذي سيكون له تأثير كبير في حياتها.وستزاول تعليمها الابتدائي في مدارس باب الخضراء وباب سويقة وحي الزهور لتنتقل إلى معهد نهج الباشا لمزاولة تعليمها الثانوي لتواصل تعليمها الجامعي في معهد الصحافة وعلوم الأخبار أين ستتحصل على الإجازة سنة 1980.
وبعد بعض التجارب المختلفة ستنطلق زينب في تجربة صحافية مهمة حيث ستكون مراسلة للمكتب الجهوي لوكالة NBC في إفريقيا الشمالية .وستتواصل هذه التجربة لسنوات طويلة لتقف عند غلق المكتب سنة 1993 بعد رجوع الجامعة العربية للقاهرة وخروج منظمة التحرير من تونس بعد اتفاق أوسلو.وقد مكنت هذه التجربة زينب فرحات من عشق هذه المهنة لتواصل إلى اليوم الكتابة في بعض الصحف.كما مكنتها كذلك من الاقتفاء بعدد كبير من القادة السياسيين ومن أهمهم قادة الثورة الفلسطينية الموجودين في تونس كأبو عمار وأبو جهاد.
ومن الصحافة ستنتقل زينب فرحات إلى مجال التنشيط والإنتاج الثقافي حيث ستصبح احد ديناموهات مسرح التياترو.
كان اللقاء مع زينب فرحات ككل مرة شيقا وفيه الكثير من الأفكار والآراء مشوبة بروح الدعابة والنكتة التي تميزها.وأردت أن اعرف أكثر عن هذه المناضلة والفاعلة والناشطة في عديد المجالات من الثقافة والإبداع إلى السياسة والمجتمع المدني.فسألتها عن التأثيرات التي عرفتها والتي أثثت لهذا الفكر الحر وهذا الالتزام السياسي والفني.
وتشير زينب فرحات إلى أربعة عوامل أثرت فيها وساهمت في نحت شخصيتها الفكرية والسياسية والفنية.الشخصية الأولى كما الشأن بالنسبة لرجاء فرحات هي الوالد الصحبي فرحات والذي ترك أثرا لا يمحى في ذاكرة ابنته.وكان لهذه المناضل الكبير تأثير كبير على بناته من خلال التجربة الليبرالية التي وفرها لهن بالرغم من مواقفه المحافظة في عديد المجالات – فسمح لبناته بمزاولة تعليمهن وتركهن يخرجن بدون إذنه بالرغم من أن الموافقة كانت ضرورية لزوجاته واشترط على أزواجهن قبل موافقته على قبولهم أن تختار بناته حياتهن المهنية بكل حرية.
كما ساهم الوالد في اهتماماته الفنية باعتباره كما يصحبها إلى جانب بقية الإخوة والأخوات لحضور العروض المسرحية والسينمائية د- كما كان لا يغيب عن العروض الموسيقية الكبرى كما كان كذلك لانتمائه ونضاله السياسي انعكاس على أبنائه وعلى اهتماماتهم بالشأن العام.
الشخصية الثانية التي كان لها تأثير على زينب فرحات هي أستاذ التربية الإسلامية في معهد نهج الباشا علي الاصرم والذي قدم لتلامذته في تلك السنوات صورة منفتحة على الإسلام .وقد ساهمت دروس أستاذها في بناء علاقة جديدة مع الأديان واعتبارها جملة من القيم الأخلاقية التي تنير التزامنا الأخلاقي والاجتماعي.
الشخصية الثالثة التي سيكون لها تأثير كبير على زينب هي أختها المرحومة صفية فرحات والتي ستفتح أمامها مجالات النضال والعمل السياسي – فستعرفها على النضالات في العالم وتحكي لها عن شي قيفارا وعديد المناضلين الآخرين.إلا أن أهمية هذه العلاقة ستكون في فتح مجال النضال النسوي لتصبح زينب فرحات إحدى المساهمات في الجمعيات النسوية وخاصة جمعية النساء الديمقراطيات.
والى جانب هاته الشخصيات لعب الكتاب دورا كبيرا في تكوين هذه الشخصية الثائرة على الأوضاع التقليدية.وكانت قراءة «الغريب» لكامي والغفران للمعري في سن السادسة عشرة نقطة تحول كبيرة في تفكير وآراء زينب فرحات.فهذه الكتب إلى جانب أخرى كثيرة ستغذي فيها روح الثورة على السائد وعلى التقاليد والأفكار البالية.
التقت هذه الشخصيات المحورية مع الكتب والأفكار لتنحت المعالم الكبرى لشخصية زينب فرحات وتزرع فيها روح الثورة والتحدي والعمل السياسي إلى جانب حس وذائقة فنية راقية والكثير من الحب للإبداع.
وستكون هذه المعالم وهذه الشخصية عدة وسلاح زينب فرحات في المجال الفني .وكما أشرت منذ البداية فانها ستنخرط في تجربة التياترو أول فضاء فني مستقل في تونس والعالم العربي والذي أسسه توفيق الجبالي في 5 أكتوبر 1986 ليحتفل هذه السنة بعيد ميلاده الثلاثين.وقد كان الافتتاح بمسرحية «مذكرات ديناصور» لبريشت وقام بإخراجها رشاد المناعي وبالتمثيل توفيق الجبالي ورؤوف بن عمر وسينوغرافيا محسن الرايس وكانت تجربة التياترو وتجربة جماعية التقى حولها عديد الاصدقاء لدعمها وتمكينها من المواصلة .ولعل أهم تجربة مسرحية تم إنتاجها في التياترو وهي مغامرة «كلام الليل» وهي عبارة عن متابعة للأحداث اليومية والسياسية.وقد قام التياترو بإنتاج هذا العمل بطلب من التلفزة التونسية.إلا أنها وبعد بث الحلقة الأولى قامت بالتراجع عن هذا الاتفاق بدعوى نخبوية هذا العمل .إلا أن التياترو وتوفيق الجبالي واصلا إنتاج هذا العمل الذي اشترته التلفزة بدون بثه.وقد عرف هذا العمل نجاحا جماهيريا كبيرا كما عرفت عديد الأعمال الأخرى نفس النجاح نذكر منها مسرحية «هنا تونس» ومسرحية «المجنون» لجبران خليل جبران والتي زارت عديد بلدان العالم.
وفي رأيي فان تجربة التياترو هامة لا فقط لأنها أول تجربة لفضاء مستقل بل لأن هذه التجربة كانت الحاضنة للإبداع الفني بعد تكلس المؤسسات الرسمية وانغلاقها على التجارب الإبداعية الحرة والمستقلة.وهذه التجربة لم تقتصر على العمل المسرحي بل تضمنت كذلك رواقا للمعارض الذي احتضن عديد الفنانين التشكيليين الشباب والذين أصبحوا اليوم في خانة أهم الفنانين ونذكر منهم هالة عمار وزياد الاصرم ونجاة الغريسي.كما أضاف التياترو ستوديو لتكوين الممثلين منذ 14 سنة يشرف عليه أهم الأساتذة في جميع مجالات العمل المسرحي.وقد ساهم هذا الاستديو في بروز عدد هام من الممثلين الشبان.
لقد أصبح التياترو مكانا وفضاء احتضن أهم التجارب الإبداعية في فترة انغلاق وتراجع المؤسسات الرسمية مع نمو الاستبداد في بلادنا .وقد شكل هذا الفضاء بديلا للمؤسسات الرسمية وصار وجهة للفنانين والمبدعين ودعم حركة الخلق والإبداع وساهم في دعم المشروع الثقافي الوطني في أصعب وأحلك الفترات التاريخية في بلادنا.وقد كان لنجاح هذه التجربة انعكاس هام على الساحة الثقافية التي عرفت ولادة العديد من الفضاءات المستقلة ليبلغ عددها اليوم 43 فضاء مما دفع زينب فرحات إلى إنشاء «النقابة الحرة للفضاءات الركحية» منذ أيام والتي تولت رئاستها.
المسالة الثانية الهامة في تجربة زينب فرحات تخص علاقة نضالات الحركة النسوية بالإبداع في بلادنا.لقد ساهمت زينب فرحات في عديد الجمعيات والحركات النسوية في بلادنا والتي احتضنها نادي الطاهر الحداد في بداية السبعينات وستلتقي في هذه النضالات والمحاولات المختلفة حول إنشاء جمعية النساء الديمقراطيات التي ستتحصل على التأشيرة سنة 1989.وستلعب الجمعية دورا مركزيا في النضالات النسوية وتأطير المطالب لتحقيق المزيد من المساواة والعدالة.إلا أن المسألة الهامة بالنسبة لمقالنا تخص الدور الذي سيلعبه التياترو في احتضان الحركة النسوية وجمعية النساء الديمقراطيات وبصفة خاصة في ربط هذه المطالب والنضالات بالحركة الفنية وبالإبداع بصفة عامة.فقد احتضن الفضاء عديد الأنشطة التي نظمتها جمعية النساء الديمقراطيات وكان كل نشاط ينتهي بإخراج مسرحية حول موضوع الندوة.ومن ضمن هذه الندوات نذكر ندوة «النساء المحترمات» والندوة حول العنصرية ضد السود تحت عنوان «أن تكوني سوداء في الخضراء» ولقاء حول الميراث تحت عنوان «حقي في نصفي»
وشكلت هذه الورشات واللقاءات حلقة الربط بين النضال النسوي والحركة الإبداعية في بلادنا.فغذت الحركة النسوية الإبداع والمجال الفني بآرائها وأفكارها لتصبح قضايا رفض العنف ضد النساء والمساواة في الحقوق وحرية الجسد واحترام التنوع من القضايا التي تعامل معها الفنانون والمبدعون مما ساهم في خصوصية مشروعنا الثقافي وتفرده مقارنة بالبلدان الأخرى.
إن تجربة زينب فرحات هامة باعتبارها ساهمت في بروز وتطور الفضاءات المستقلة كما ساهمت في احتضان الإبداع والفنانين في فترة انغلاق المؤسسات الثقافية الرسمية.
وهذه التجربة مهمة كذلك باعتبارها تعتبر وتشير إلى الخيط الرابط بين نضالات الحركة النسوية وحركة الإبداع في بلادنا.وقد جعلت هذه الحركة من مبادئ المساواة والتنوع وحق الاختلاف مبادئ ثابتة في الحركة الفنية وفي تفرد وخصوصية مشروعنا الثقافي.