أحصر كلامي سيدي الوزير في مسألة واحدة، أعتبرها الأخطر، وأطالب بمواجهتها حتى نغلق أبوابا ليس لنا القدرة على تحمّل ما قد تفتحه لنا من مشاكل في مجتمعنا.. وأنت الخبير العالم أنّ أوّل نافذة في تغيير المجتمع هي الفكر، ولا شيء غير الفكر في بناء الصورة المطلوبة لمجتمع ما، سواء كانت هذه الصورة حداثية أو رجعية. وأراني مجبرة على التنبيه إلى أهمّ المخاطر التي تحدق بتعليمنا وبأبنائنا:
• فالجميع يعلم أنّ عدد أبنائنا الطلبة يتجاوز طاقة الاستيعاب بمؤسساتنا، وبلغ عددهم في التعليم العمومي 250900. وبالمقابل أغلقت أبواب الانتداب وفتحت دورات مؤقتة في انتداب متعاقدين من الشباب يفتقرون هم أنفسهم إلى التكوين والتأطير، وهي وضعية تدعو إلى التساؤل عن نوعية المادّة التعليمية التي سيتلقّاها الطلبة في ظروف تقتضي أن تكون قاعات الدرس ممتلئة حدّ الاختناق والأساتذة المرسّمون قلّة والتعويل الكامل على طلبة مسجّلين في الدكتورا أو الماجستير؟ أي بمعنى آخر أن من كلّف بالتدريس هو في نفس المستوى التعليمي مع الطلبة وقد يكون أستاذا في الثانوي ولا يمتلك الآليات العلمية للتدريس في العالي.
• لا ننسى هجرة الأساتذة إلى التدريس بالخارج، ولا يفوتني أن أنبّه إلى أنّ هذه الظاهرة استفحلت بعد الثورة وفي عهد الترويكا، وذلك سعيا إلى إفراغ سلك التعليم من الكفاءات العلمية حتى يصاب بسرطان شبيه بما يُعنتُ «بتجفيف المنابع»، وفي ذلك تفقير لبنية التعليم وإضعاف لسلك المكوّنين. وهذا خطر يجب مواجهته لأنّ في السكوت عنه نسهم في الإطاحة بمستوانا في التكوين..
• لعلّ أهمّ الأمراض التي أصابت أبناءنا نتيجة ما مررنا به من تفقيرهو ما يعانيه أبناؤنا من عجز عن القدرة على التفكير، وتخريج جيل آهل لأن يستقطب من جمعيات تعتبر نفسها حاملة للدين الحقّ.
• وهنا بيت القصيد. فقد انبعثت جمعيات برنامجها الأساسي يقوم على الاستقطاب. واشتغلت على من نجح ولم يوظَّف، وأيضا على من فشل في مسيرته التعليمية قبل الباكالوريا وحتى على من يسعفه التوجيه بالاختصاص الذي يريد. أعني بكلامي الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين فرع تونس الذي تمركز بمونبلزير لينشر «الكلمة الحق» كما يعتقد.. « ويرويَ الجذور بعد أن جفّت المنابع كما يقولون.. وبدأ نشاطه منذ 2012. ولا شكّ أنّه متمتّع بتأشيرة رسمية من وزارة الداخلية، تسمح له باستقطاب أبنائنا وتسميم أفكارهم بأمور بدأنا نجني ثمارها.
ركّز هذا التنظيم على تنظيم دورات تعليمية تحاكي نظام التدريس بجامعاتنا، وتخيّر من البرامج نفس ما يلقّن بجامعة الزيتونة. وإليكم نموذج من الدورات التي أشرف عليها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ( فرع تونس) سنة 2012.
برنامج الدورات العلمية لاتحاد علماء المسلمين
• الدورة الأولى:
- العقيدة (1) - مدخل لدراسة علوم القرآن - فقه السيرة النبوية - فقه الطهارة والصلاة.
• الدورة الثانية:
- العقيدة - مدخل لدراسة علوم الحديث - فقه الصيام وفقه الحج - موجز تاريخ الإسلام
• الدورة الثالثة:
- مدخل لدراسة الشريعة: مصادر التشريع وتاريخه - فقه الزكاة - الزهد والتربية الروحية في الإسلام - شرح الأربعون النووية
• الدورة الرابعة:
- ملخص أحكام الأحوال الشخصية - مدخل عام لدراسة أصول الفقه ومقاصدالشريعة - رواد عصر النهضة ومدارس الاصلاح
• الدورة الخامسة:
- تتركز هذه الدورة على تمليك المتعلمين مقدرات في فنون التربية والتواصل والبلاغ وقد تقتصر على نصف الوقت المخصص للدورات الأخرى وتكون فيها مواد مثل:
- الدعوة والدعوة الفردية، واجبات التربية الإسلامية والعناية بالأجيال
- مبادئ عامة في طرق التربية والتعليم
- في فنون الخطابة والبلاغ العام
- في فنون التواصل
- في طرق التحصيل الفردي وتنمية القدرات
تلاحظون سيدي كم هي مقصودة المواضيع التي اعتنوا بتدريسها في سنة 2012 بالذات، سنة عاشها المجتمع التونسي بجميع المواجهات مع الاتجاهات الرجعية وبوجه أخصّ مواجهات تزامنت مع صياغة الدستور والجدل الذي صاحبه في قضية إدراج الشريعة، وفي الصورة التي نريدها لبنية المجتمع التونسي..
شهدت سنة 2012 نشاطا حثيثا لمنظّمة الإخوان بتونس، واللاّفت أنّ عملها كان بتزكية من الدولة: من توفير للفضاءات التابعة للوزارات مثل فضاء دار الجامعات الرياضية، وقصر المؤتمرات . بل إنّ وزارتي التعليم العالي والشؤون الدينية كانتا تشاركان هذا الفرع في إنماء الجدل في المجتمع التونسي. فقد نظّمت بالاشتراك مع جامعة الزيتونة ووزارة الشؤون الدينية بقصر المؤتمرات في ماي 2012 مؤتمرا موضوعه «نحو تجديد في الفقه السياسي الإسلامي».. وأسهمت في تمويل نشاط جمعية نساء تونسيات في نفس السنة أيضا بتنظيم ورشة « المرأة في التشريع الإسلامي» .. لا تغرّك المواضيع المطروحة سيدي لأنّ العبرة بالمعاني المكرّسة، معاني قامت على التكفير والتحذير من الخروج عن الملّة..
و استمرّ هذا التنظيم ببلادنا يسير على نفس هذا النهج ، ولك أن تتثبّت في برنامج الدراسة بالنسبة إلى هذه السنة الدراسية/ الجامعية: إذ يتواصل تدريس الأحوال الشخصية والغريب أنّهم يفصلون هذا المشغل عن آيات الأحكام ويعتبرونه قضية إشكالية جديرة بالنظر والتأنّي. وذلك لإيمانهم بأنّ الأسرة هي قوام المجتمع بأكمله، ويجب ضبط المعاني التشريعية التي تقوم عليها ضبطا نهائيّا لا يحتمل تشكيكا أو نقاشا.. بينما النظر في الحدود أو الأموال فتلك قضايا ثانوية في وقتنا الحاضر ويمكن إرجاء النظر فيها إلى حين( انظر الصفحة المرافقة عدد 2). و يرجئون تدريس مقاصد الشريعة والمواريث إلى السنة الثالثة ( انظر الصفحة المرافقة عدد 3)، وندرك أنّ مشغل المواريث صار مسألة حتمية ومستحدثة، وجب الوقوف عندها وتوفير الآليات اللازمة حتى يقدر الداعية المتخرج ذكرا كان أو أنثى على مواجهة التيارات التحديثية في المجتمع وخاصّة بعد أن تجرّأ وصار ينادي بالمساواة بين المرأة والرجل وبإعادة النظر في المواريث، وبصفة أخصّ بعد أن انضمّ رئيس الجمهورية إلى الصفّ الحداثي. ولا يغرّك سيدي إدراج حقوق الإنسان باعتبارها مسألة مؤهّلة للتدريس : فحقوق الإنسان
في نظرهم لا تقوم البتّة على المساواة التامّة بين المرأة والرجل بقدر ما هي رؤية تكرّس دونية المرأة وتعتبرها قدرا مقدّسا عليها أن تحفظه، فالمساواة هي العدل فيما أقرّه الشرع للمرأة وهي ترادف العدل لا غير.
لك أن تنظر مليّا في الإعلام الرسمي للترسيم بالنسبة إلى التلاميذ ( أي الذين لم يحصلوا على شهادة الباكالوريا) أو الطلبة ( بالنسبة إلى حاملي الباكالوريا أو ما يعادلها) ستدرك أنّ هذا التنظيم الذي ارتكز « قامة» في بلدنا صار جامعا لمشمولات وزارتي التربية والتعليم العالي، كما ستدرك كم أنّ المبلغ المدفوع زهيد، بل ينافس ما يدفعه طلبتنا معلوما للترسيم بكلياتنا..( انظر الصفحة المرافقة عدد1).
في هذا السياق أتساءل إن كانت التربية أو وزارة التعليم العالي قد منحتا لهذه الجمعية تأشيرة حتى تفتح مؤسّسة خاصّة في التعليم الديني؟ وإن حُمِل عملها على أنّه نشاط جمعياتيّ فليس للجمعيات أن تتدخّل في مشمولات مؤسّسات تربوية أو تعليمية. ويصير لزاما التدخّل لإيقاف مثل هذه الأنشطة المضرّة بأبنائنا ومجتمعنا، أنشطة ليس لها من همّ سوى العمل على إشعال نار الفتنة..
مسألة أخرى تؤرقني وأنا أتابع نشاط هذا المكتب المتفرّع عن التنظيم العالمي، مع التنبيه إلى أنّه استقرّ بتونس العاصمة وبصفاقس: ما هو مصير من تكوّن وتحصّل على شهادة؟ البطالة؟ حتما... لا ، فهم مستقطبون من رياض الأطفال، وقد تكون وزارة الشؤون الدينية باقية على وفائها فيما أقرّته سنة 2012 من تعيينهم مرافقين في الحجّ أو تزكّيهم للانتداب مرافقين في مواسم العمرة. ولا ننسى المدارس الخاصّة والروضات القرآنية التي تستقطب هؤلاء للتدريس بفضاءاتها، وأذكّرك سيّدي أنّ الوزارات المتعاقبة بما فيها وزارة المرأة لم تقدر جميعها على غلق هذه المؤسسات التي نبتت دفعة واحدة بعد 2011 مثل الأعشاب الطفيلية، ومعظمها لم يطلب ترخيصا. وكان لهذه المدارس تأثير على أبنائنا، وكوّنت جيلا يعاني من عقدة
الاختلاف.. عقدة أنّه على حقّ ومحيطه العائلي والمجتمعي في ضلال، ولن ينشأ سوى جيل يميل إلى الانغلاق على نفسه في مرحلة أولى ليبحث في مراحل لاحقة عن طرق أخرى للمواجهة بما فيها العنف والتطرّف. وحتما سيسعى إلى فرض ما تغذّاه عندما كنّا ننظر إليه فريسة ونستهين بالوضع، ولم نحمه من هذا الخطر التنّين، سيسعى هذا الجيل سيّدي إلى فرض الجهل المقدّس في مجتمعنا، وسيعمل على بناء عقيدة الترهيب والخوف.. وعندئذ ننتفض لننادي بوجوب مقاومة الإرهاب وقتل الجناة، ونذيع في وسائل الإعلام تلك العبارة الساذجة « الإرهاب موش متاعنا».. لا بل هو « متاعنا» تهاونّا في مقاومته.. وتهاونّا في إنقاذ فلذات أكبادنا من دعاته... نار التطرّف سيدي مشتعلة بيننا، ونحن في حاجة إلى يد عليا وقويّة لتطفئها.. وقدرك أن تكون هذه اليد القويّة.. كما هو قدرنا أن نراقب وننبّه.. حتى يعود مجتمعنا متصالحا مع عقيدته مطمئنّا إلى ممارساته الدينية.
فالفساد على هذا الأساس أنواع، وبما أنّك فتحت باب مقاومته فلا تتهاون بالصنف الأشرس منه، إنّه الفساد في التكوين وفي التربية، لأنّ مقاومة الفساد الاقتصادي عمليّة سهلة، قوامها الإمساك بالجاني وعزله في السجن إلى حين محاكمته، أمّا المفسد في تربية أبنائنا فحتى وإن أمسكت به وسجنته فإنّ ما زرعه في نفوس أطفال مثل الملائكة قد لا نوفّق في محوه كاملا،
لأنّ براءتهم اُنتُهِكت، وعندما ينتهك طفل في براءته نكون قد أعددنا فردا قلقا ، مريضا ومتأزّما منبتّا..
• ليس لي في الأخير سوى أن أذكّر بأنّ هذا التنظيم آل على نفسه أن يبقى حاضرا، وأنذر نذيرا: هو السعي إلى استرجاع ما ضاع منه.. ليس لي سوى أن أذكّر بأنّ شغل هذا التنظيم الشاغل يكمن في أبنائنا وفي كيفية عركهم حتى يصنع منهم نموذجا للمجتمع الذي يحلم بتحقيقه.. ولا أنسى عبارة أحدهم: احنا ما يهمنا كان ولادهم...