في هذه اللحظة العصيبة و بقلوب ملؤها الحزن نودع إبنا من خيرة أبناء تونس خدمها بجد و إخلاص، خدمها و هو مدرس بالتعليم الثانوي خدمها و هو أستاذ بالمعهد العالي للتوثيق خدمها و هو مدير عام مؤسسة الأرشيف الوطني خدمها و هو خبير دولي في مجال الأرشيف .
إنه لمن الصعب على الإنسان في غمرة الألم و حرقة الفراق و اهتزاز الوجدان أن يرسم مسار رجل معطاء أحب العمل و أحب الوطن و أحب التاريخ وأحب مصادر حفظ الذاكرة الوطنية.
إن عزاءنا في فقدانك أن البناء الذي شرعت في انجازه بدأ يكتمل و أن الرصيد الأرشيفي التاريخي الذي تركته سنة 2006 في حدود 50 ألف حافظة ،تجاوز اليوم 250 ألف حافظة .
إن عزاءنا أن طلبتك يمسكون اليوم و في مختلف هياكل الدولة وفي الأرشيف الوطني بمسؤولية هذه الوظيفة الحيوية للمجتمع : حسن التصرف في الوثائق و المعلومات و جمع مصادر الذاكرة الوطنية و ينجزون أعمالهم كما علمتهم بكل دقة و تفان .
إنها لحظات حزينة و مؤلمة و قاسية أن نودع الرفيق و الصديق الذي جمعتني به مغامرة رائعة وتجربة فريدة: بناء مؤسسة عصرية لحفظ الذاكرة الوطنية و بناء نظام عصري للتصرف في الوثائق والأرشيف، مغامرة رائعة كان له السبق في تصورها و بلورتها و الشروع في انجازها و كان لي الشرف في الإنضمام إليها و مواصلتها صحبة عشرات الصديقات و الأصدقاء و الزميلات و الزملاء من خيرة ما أنجبت الجامعة التونسية من مدرسي المعهد العالي للتوثيق و من خريجيه .
ولد المنصف الفخفاخ يوم 07 ماي 1947 نشأ و كبر و تعلم في مدينة صفاقس ،مدينة الكد والكدح و العمل،بعد حصوله على شهادة البكالوريا ،انتقل إلى تونس ليدرس بكلية الآداب و العلوم الإنسانية ليتخرج منها و يبدأ رحلة العمل و الإجتهاد و النضال - النضال الذي بدأه صلب الإتحاد العام لطلبة تونس .
إلتحق بمدرسة المدارس،إلتحق بالتعليم الثانوي حيث درس بحومة السوق وصفاقس ثم تونس ومارس مهنته بكفاءة و اقتدار و اخلاص و تخرج على يديه عدد هام من الكفاءات و الكوادر.
خاض خلال مرحلة التعليم الثانوي تجربة النضال النقابي المسؤول في أدق مراحلها في السبعينات وبداية الثمانينات و كانت نقابة التعليم الثانوي آنذاك حاملة لواء تجديد العمل النقابي و استقلاليته.
ثم جاءت مرحلة انتقالية في حياته إلتحق خلالها بالمعهد العالي للتوثيق و كان آنذاك يديره مؤسسهُ أستاذنا الجليل عبد الجليل التميمي ،الذي كان لهُ الفضل في دفع المرحوم المنصف الفخفاخ إلى إعداد أطروحة دكتوراه حول الدفاتر الإدارية و الجبائية و في مساعدته لتولي مهام مصلحة الأرشيف العام للحكومة بعد أن أصبح أستاذًا لعلم الأرشيف بالمعهد العالي للتوثيق و هنا بدأت مرحلة جديدة هامة في حياة فقيدنا بل لعلها الأهم .
فبسرعة فائقة و نجاعة لافتة و منهجية علمية وعقلانية ناجزة بنى المنصف الفخفاخ في سنوات قليلة نظاما وطنيا متكاملا للتصرف في الوثائق العمومية و الأرشيف فصدر القانون في مثل هذا الشهر من سنة 1988 ثم تلته أوامر تطبيقية و قرارات و مناشير فأصبحت لتونس مدونة قانونية و ترتيبية متكاملة بما فيها نظام أساسي للمهنيين .أحدثت مؤسسة الأرشيف الوطني و أحدثت هياكل الأرشيف بالوزارات و المرافق العمومية و تم مد تلك الهياكل بالإطارات الكُفأة من خريجي المعهد العالي للتوثيق وكان المرحوم وراء إحداث مرحلة تكوين المتصرفين في الوثائق و الأرشيف في أواسط تسعينات القرن العشرين و مرحلة تكوين متصرفين مستشارين في بداية سنوات الألفين .
وبداية من سنة 2000 تم اقرار برنامج وطني لإنتداب المختصين مكن من توفير 1600 مختص لمختلف هياكل الدولة ،(بعد أن كان عددهم يعد بالعشرات ).
وفي نفس الظرفية بدأت مرحلة حاسمة في إكتمال النظام بإعداد أدوات التصرف في الوثائق و الأرشيف دامت 06 سنوات و كان لي شرف المساهمة فيها مع مسؤولي الأرشيف بالوزارات .
و على مستوى مؤسسة الأرشيف الوطني تم إنجاز المخطط المديري للإعلامية و تطوير موقع واب و منظومة مندمجة للتصرف في الوثائق العمومية والأرشيف و الكتب .
ولم يهمل الفقيد أرشيف الوزارات حتى تم اقرار انجاز مبنى للأرشيف الانتقالي لفائدة هذه الوزارات ،بدأ انجازه عندما غادر المرحوم المؤسسة في ماي 2006 .
و بالتوازي مع عمله بمؤسسة الأرشيف الوطني واصل التدريس بالمعهد العالي للتوثيق و تخرجت على يديه خيرة الكفاءات في هذا المجال و حتى بعد مغادرته ظل حريصا على تطوير المؤسسة و كان وراء انجاز مخبر متعدد الاختصاصات بها للنهوض بالتكوين في مجال الوثائق و الأرشيف لم يسعفه الوقت لحضور تدشينه و افتتاحه .
بعد تمتعه بحقه في التقاعد لم يتوقف عن العمل بل واصل تركيز نظم الأرشفة ،بخبرته وجديته ورؤيته الثاقبة المعهودة –فكانت سلطنة عمان انجازه الثاني بعد تونس .فـفي سنوات قليلة أنجز ما عجزت عنه مؤسسات دول لها من الإمكانيات الشئ الكثير .
(صدر القانون و اللوائح التطبيقية وأنشأت مؤسسة وطنية و بدأ التكوين بتونس و بعمان وصدرت أدوات التصرف ...).
و كان قبل ذلك ساعد اليمن و السنغال و الكوت دي فوار ... و في السنوات الأخيرة ساعد كذلك المغرب في إصدار النصوص التطبيقية لقانون الأرشيف ثم بدأ تجربة جديدة لبناء نظام أرشفة بإمارة الشارقة بالإمارات العربية المتحدة لكن المرض لم يمهله لإتمامها.
على المستوى الدولي ترأس الفقيد الجمعية العالمية للأرشيف الفرنكوفوني من إنشائها و حتى 2006 و الفرع الإقليمي العربي من سنة 1988 حتى 1990 ، كما ساهم مساهمة فعالة في انجاز البوابة العالمية للأرشيف الفرنكوفوني التي تم افتتاحها بتونس سنة 2005 كما كان عضوًا بالمكتب التنفيذي للمجلس الدولي للأرشيف ورئيس لجنة التقييم بهذا المجلس .
المنصف الفخفاخ كان يتقن كل عمل يقوم به.
المنصف الفخفاخ عُرف بصرامته مع نفسه و مع محيطه صرامة تصل حد القسوة أحيانا .
المنصف الفخفاخ كلمة واحدة تعرفه: العمل ثم العمل ثم العمل .
المنصف الفخفاخ ينتمي إلى جيل الطموحات الكبرى و التحدي و التضحية و الاندفاع ،جيل ناضل من أجل تونس التقدم و الحرية و العدل . لكنه كان يمتاز بشيء أساسي،كان لا يكتفي بالكلام و الحلم كان يفعل ويعمل في محيط لم يكن دائما ملائما وتمكن رغم ذلك من أن ينجز لتونس و لأجيالها القادمة الشيء الكثير و يكفيه أنه طور مؤسسة شعارها و هدفها «حفظ ذاكرة الشعب».
رحم الله المنصف الفخفاخ و أسكنه فراديس جناته و رزق أهله و ذويه و رزقنا جميعا جميل الصبر والسلوان و إنا لله و إنا إليه راجعون .
د. الهادي جلاب
مدير عام الأرشيف الوطني