كان من الواضح أنّ جيوب المقاومة المستفيدة من الوضع الراكد Statu quo قد عملت، في مرحلة أولى، على امتصاص الزخم الشعبي والإعلاميّ الذي أحدثته هذه «الحرب»، وما طالته من مراكز نفوذ بإعلان الانخراط الحماسيّ في هذا «الجهاد المقدّس» حتّى امتدّ بنا العمر لنشهد حفلا تنكّريّا في ذمّ الفساد والتشنيع على أهله شارك فيه فاقد الشيء الذي صار يعطيه، والثعلب الذي برز يوما في ثياب الواعظين، وبصفاقة لا تضاهى: شطّار وعيّارون من مخضرمي العهديْن. وكلّ يدّعي وصلا بليلى، وليلى مريضة بالعراق!
ثمّ، لمّا هدأت الفورة مرّت هذه الجيوب، عبر أذرعها السياسيّة والحزبيّة والماليّة والإعلاميّة، إلى دعوة الشاهد صراحة إلى التوقّف فورا عن هذه السياسة والالتفات إلى التصريف اليوميّ لشؤون البلاد إن هو أراد أن يستمرّ في منصبه بـ«القصبة». كانت حجّتهم أنّ ما يقوم به الشاهد يفتقر إلى سند قانونيّ مرّة، أو أنّه استهداف صريح لدوائر «النهضة» و«النداء» مرّة ثانية، أو أنّه حملة انتخابيّة رئاسيّة سابقة لأوانها مرّة ثالثة، أو أنّه هدر للوقت والجهد على حساب الملفّ الاقتصادي والتنمية والتشغيل وهلمّ جرّا..
الدور الأنسب للشاهد كما يريده «إخوته» هو دور إطفائيّ الحرائق، تلك الحرائق التي تتوسّع رقعتها يوما بعد يوم في أنحاء متفرّقة من البلاد.
شغب شاغب من «النداء». ونعب ناعب من «النهضة». واستجابت ألسنة النيران الملتهبة. فإذا ما خبت، لن يعوزهم النبش في رماد «حراك» شعبيّ تحت الطلب ليشتدّ الخناق على رقبة الشاهد لعلّه أنْ ينكفئ إلى ما سُطِّر له من دور لا يعدوه إلى ما لا يعنيه!
يوسف – عليه الكلام- قصّ رؤياه على إخوته فكادوا له كيدا. لكنْ، قد يكون استمرأ، لوقت، دور المخلّص فذهل عمّا تدبّره مراكز النفوذ التي تحكم البلاد فعليّا. قد يكون غرّه من إخوته طول بكائهم خلفه وسيوفهم كانت عليه. غاب عنه أنّ الحصون تُؤتى من الداخل. وحصون الشاهد هشّة واهية. فلينظر في محيطه القريب والبعيد. ولينظر - إن استطاع - إلى إدارته العميقة.
لولا الفساد السياسيّ والإداريّ ما كان الفساد الاقتصادي والمالي ليتمدّد وينتعش ويؤسّس دولته. وهل لعاقل أنْ يأمل في كسب المعركة ضدّ الفساد بترسانة قانونيّة تنكّبت الاستقلاليّة والنزاهة والشفافيّة وبإدارة عميقة ألفت – إلاّ من رحم ربّك – الأكل من كلّ إناء، وبطبقة سياسيّة جمعت «صفوة» الفاسدين في العهديْن، قبل 14 جانفي 2011 وبعده؟
لم يثبت، لحدّ الآن، أنّ الفساد في ظلّ نظام تسلّطي كالذي كان قائما قبل 14 جانفي 2011 أسوأ من الفساد الناشئ والمتمدّد في ظلّ نظام ينزع نحو الديمقراطيّة. فليس بمقدور الديمقراطيّة، وحدها، أن تجتثّ دابره ولا أن تستبدله بالصلاح لمجرّد الرغبات الفرديّة والنوايا الحسنة. هذه، بعد الإرادة الصادقة، مهمّة القضاء والتشريعات والهيئات المستقلّة والمجتمع المدنيّ والإعلام. وكما أنّ سوسة البناء الديمقراطي هي الفساد فإنّ سوسة الدولة هي غياب الحوكمة. والدولة قبل الديمقراطية كما قد علمنا..
بعد التصريحات والمواقف التي التقت فيها قيادات «النداء» و»النهضة» ضدّ الدور الذي تلعبه «القصبة» منذ أسابيع، بدا أنّ التحالف الوصوليّ الأصوليّ قد حزم أمره بخصوص الشاهد. إمّا أنْ يعود إلى لعب دور الدمية التي لا تتحرّك إلاّ بمقدار ما يرخي أو يسحب الممسك بالخيوط في «مونبليزير» و»البحيرة»، وإمّا هي نهاية اللعبة.
فإذا علمنا أنّ الشاهد بعد ما قطعه من عهد لا يمكن سياسيّا ولا أخلاقيّا أن يتراجع، أيقنّا ما لم يحدث أمرٌ يعيد خلط الأوراق من جديد – أيقنّا أنّه سائر إلى غايته: غَيابة الجُبّ..
وجاؤوا أباهم عشاء يبكون...
وعظ مالك بن دينار الناس فتحدّث عن فساد الزمان وأهله. وبكى الحاضرون وعلت أصواتهم بالنحيب. ثمّ إنّه افتقد مصحفه فلم يجده. فصاح في وجوههم: ويحكم ! كلّكم يبكي، فمن سرق المصحف؟
بقلم:
مختار الخلفاوي