طوال العشيّة وفي الليل، لا أرى غير البنيّة. كنت أشدّها من يديها. أقبّل شفتيها. أحكي لها قصصي في تونس وعيشي في القرية. أحدّثها في مواضيع شتّى. كانت تستمع اليّ ومن حين لآخر تمسح وجهي وتعض على شفتيّ. بأصابعها المرمريّة ترتّب شعري وأحيانا تضع صدرها أمام عينيّ... لم أنم ليلتها الا قليلا. بقيت في الفراش أتقلّب. أنظر في البنيّة، في وجهها الغضّ، في خدّيها، في ثدييها. أنتظر طلوع الفجر وأبى الفجر أن يطلع عليّ. أعيد رقم هاتف والديها. أعود أشدّ على البنيّة. غدا، سأهاتفها وأقول لها ما أحمل من عشق ولوعة. هل أنت مفتون الى هذا الحدّ بالبنيّة؟ أنا أعشق البنيّة. لا أدري لماذا عشقت البنيّة؟ نظرة، كلمة، ابتسامة وها أنا غارق في الحبّ الى أذنيّ. أنا سريع الحبّ. هذه صنعة عندي. هذه ربّما من خصاليّ العربيّة. نحن العرب لا نحبّ الا حبّا قويّا. ولمّا نكره، ترانا نكره بقوّة جنونيّة. كذلك هو الطبع فينا ولا يتغيّر الطبع فينا الا قليلا. كذلك أنا. كلّما ألقاني أمام بنيّة، أنظر في عينيها، في صدرها، في خدّيها، في مؤخّرتها وفي الحين تراني أهتزّ عشقا ووجدا، مهما كانت البنيّة. دون تأنّ، دون تأمّل، تراني أحبّ حبّا قويّا وأرى الصبيّة كاملة الأوصاف، جميلة، بهيّة. لا أدري لماذا أنا سريع الالتهاب. لعلّه الكبت يدفعني دفعا. لعلّه القحط الذي عشت شابّا وصبيّا. في سنوات الجامعة، تعرّفت على بنات كثيرات وكانت لي معهنّ صلات وصولات. أفلا يكفي ما عشت خلال تلك السنين البهيّة؟ لا يكفي. أنا دوما ضمآن. من عرف الجوع زمنا يخاف الفقر أزمانا. من كان في ظمإ، لا يرويه ماء ولا طوفان. يبقى دوما في عطش. يظلّ طوال العمر جوعان...
اليوم، أحبّ الفرنسيّة. هذه الفرنسيّة ليست مثل البنات. تختلف عمّا رأيت من صبايا. هي ساحرة، جنّيّية. لها جسم أرعن وصدر مرصوص وعينان فيهما رخوة وحلاوة. هي مكتنزة لحما ولها قدّ وجمال. لماذا أحبّ النساء المكتنزات؟ لماذا يعشق العرب النساء الممتلئات؟ لعلّه الجوع في الأحشاء يفتك. نحن العرب أصلنا ذئاب. للفرنسيّة طول وقدّ وصدر ومؤخّرة، سبحان الله في ما أعطى وهدى. ألم تر ثغرها وشفتيها؟ ألم تر خدّيها؟ ألم تر صدرها وثدييها؟ هي لحم طريّ، يذوب في الفم سكّرا وحلوى.... غدا أهاتفها. غدا أقول لها قولا جميلا. غدا ألقاها. أشدّها من يديها. أمشي في الحدائق وايّاها. نشرب عصيرا وأشياء أخرى محرّمة أو حلال، ان شاءت. هي من سوف يقرّر وسوف أتّبعها في ما تختار..
ها هو الفجر ينطلق في السماء وضّاء. ها هو الصباح يشعّ بهاء. ها هي الشمس تنشر في الأرض أنوارا. أنهض. أمشي في الغرفة عدّة مرّات. أنظر. أفكّر. أغسل وجهي وإبطيّ. أتثبّت في رقم هاتفها. أعيده مرارا. أسوّي شعري وثيابيّ. ألبس أجمل لباس. أتعطّر بأحسن عطر. من يدري لعلّها تأتي توّا اليّ. ما من شكّ سوف تأتي توّا اليّ. ها أنا جاهز. ها أنا مستعدّ. ها أنا كامل الأوصاف. ها هو الشوق يحملني. ها أنا في الشارع أسعى، أبحث عن هاتف عموميّ. هنا محلّ الهاتف العموميّ. لماذا لم يفتح المحلّ؟ سوف أنتظر. سوف أترقّب حتّى تفتح الأبواب. ماذا سأقول للبنيّة؟ يجب أن أعدّ لها جملا سويّة في فرنسيّة جليّة فيها ألفاظ زكيّة. الكلام سحر وعليّ أن أنظّم الكلام وأسحر البنيّة بكلاميّ. أعددت جملي. اخترت الألفاظ لفظا، لفظا. نمّقت الجمل بكلمات مختارة. راجعت تنسيق الجمل. أعدت ترتيب النصّ. أوّلا، أبدأ بالسلام العطر ثم بتقديم نفسي ثم أذكّرها بذاك اللقاء الجميل، صباحا، وأختم «هل تريد آنستي أن نلتقي ونشرب شيئا... هل تريد آنستي...؟» فتح صاحب المحلّ محلّه. دخلت اليه أجري. أخذت السمّاعة وفي يديّ ارتعاش. أسقطت قطع النقود في مكانها. قلبيّ يخفق. جف ريقي قبل أن أبدأ الكلام... يجب أن أتدارك الوضع. كفاك من هذا يا شباب. توكّل على الله ولا تخف والله الموفّق في كلّ حال. ها أنت والبنيّة وجها لوجه، أذنا لأذن فقل لها ما شئت من الكلام...
- ألو... صباح الخير. هنا بيت السيد ألبار، من فضلك؟
- نعم. تفضّل. من أنت؟
- أهلا وسهلا. أنا... أريد أن أتكلّم مع الآنسة من فضلك...
- تطلب ميرابلّا؟
- نعم، أطلب الآنسة ميرابلّا
- هي نائمة الآن. أطلبها بعد ساعة من الزمان...
- هي نائمة... شكرا سأعود بعد ساعة. شكرا...
كنت في بعض غيب. أنظر ولا أتبيّن الزمان ولا المكان. كنت في بعض ذهول. أتكلّم وحدي. حبيبتي نائمة. حبيبتي اسمها ميرابلّا. اسم جميل فيه رقّة وحنان. وافق الاسم المسمّى. ميرابلّا. ميرابلّا. سأطلبها بعد ساعة. تأخير بسيط. هي نائمة. سأعود بعد قليل. لا يهمّ. ساعة وألقاها. حصل تأخير في اللقاء. لا يؤخّر الله أمرا الا لخير. رأسي مشوّش. الله الموفّق. أطلب من ربّي معونة ونصرا. أقرأ الفاتحة. أقول كلاما بلا معنى. أنا أهذي. أنا أهزّ وأنفض... خرجت أجوب الشوارع. ها أنا في الشارع أقتل الوقت. أعرف كيف قتل الوقت. هذا ما فعلت في تونس أشهرا وسنوات. سوف أنتظر ساعة من الزمان. ساعة واحدة؟ غير مهمّ. في مقهى البلاص وفي غيرها أضيّع كلّ يوم الساعات... الوقت بطيء في فرنسا. هناك فرق كبير بين وقت تونس ووقت فرنسا. تمرّ الساعات في تونس سريعة دون أن تثقل صدرك. في فرنسا، الوقت مختلف. يجب أن أنتظر نهوض ميرابلّا. هل مرّت ساعة؟ أعود الى محلّ الهاتف العموميّ. أطلب من الله توفيقا ومساعدة. أعيد بعض الدعوات والآيات حفظتها لمّا كنت طفلا صبيّا. أعود. أدخل محلّ الهاتف العموميّ. أرفع السمّاعة. أكتب الرقم. أنتظر جوابا...
- ألو. أهلا. أطلب ميرابلّا من فضلك. هل يمكن أن أتكلّم مع ميرابلا؟
- أنا ميرابلّا. من أنت؟
- أنا... أنا الشابّ التونسيّ. أنا الحمّال المزوّد. كنت أتيتكم صباحا بثلّاجة أمريكيّة. هل تذكرين؟ أنا الشابّ التونسيّ. كنت شربت في بيتكم قهوة بل عصير رمّان أو تفّاح... هل تذكرين...؟ أهلا وسهلا. الآنسة ميرابلّا. أنا التونسيّ...
- هل تذكرين؟ منذ يوم أو يومين، في الصباح، أتيتك والسائق نسلّمكم ثلّاجة بيضاء. أنا الحمّال. أنا المزوّد.. منذ يومين أو ثلاثة. صباحا. ثلّاجة أمريكيّة. عصير رمّان... هل تذكرين؟
- لا أذكر... وماذا تريد؟
- أريد أن أقول لك صباح الخير... طلبتك لأدعوك ان شئت... أن نلتقي. أن نشرب معا قهوة أو نأخذ مثلّجات... أنا أحمل عنك أجمل ذكرى. ان شئت. لأنّي...
- انقطع الهاتف. لا شيء أسمع. أين ذهبت البنيّة؟ هل غادرتني البنيّة؟ ماذا حصل؟ هل هو عطب...؟ انصرفت ميرابلّا. تركتني وحيدا. شدّني وجم. لا أفهم ما يجري. لا أقدر على الحركة. لا أتبيّن شيئا...
- مرّت على الحادثة تلك نحو نصف قرن. حصل ذلك في بداية السبعينات من القرن الماضي. الى اليوم، أحيانا، أتذكر البنيّة وما كان لها من نظارة ودلال. أمام عينيّ، أرى صدرها المرفوع وثغرها الشهيّ وهذا شعرها على كتفيها ينساب...
(يتبع)