حديث الأنا: في حرّ الصيف والريح الشهيلي VI - الحبّ، روح الله في الأرض تسري

يجب أن ألقاها. يجب أن أعود اليها. عنوان بيتها مسجّل في الوصل. ها هو رقم هاتف أبويها. كلّ المعطيات بين يديّ. انشرح صدري. القضيّة سهلة. سوف أهاتفها وأقول لها ما شئت من قول. سوف أهاتفها وأحكي لها ما في القلب من شوق. ما من شكّ سوف أقنعها. ما من شكّ سوف تأتي. القضيّة منتهيّة.

لا وجود لقضيّة... لم يهدأ روعي. رأسي مشوّش. لماذا لم أجرأ؟ أنا جبان، غبيّ. بقيت غاضبا على نفسي، ساخطا على ما أحمل من مركّبات وعقد. لماذا لم أقل لها ما أحمل من وجد؟ كانت تنتظر منّي كلمة. اشارة واحدة تكفي لتهوي البنيّة، لأقبّل جبينها وأضمّ الى شفتيّ شفتيها. هذه بنيّة عاشقة وفي عينيها حبّ يتدفّق وفي فمها قبل تقطر. أحسست بمرارة. كنت أظنّ أنّي من العقد تحرّرت. كنت أعتقد أنّي قادر على كلّ شيء. قضيت العشيّة في كدر. دمي يغلي. شدّتني حرارة صيفيّة...

في تونس، كلّ صيف، تعمّ الأرض حرارة لا تطاق. حرارة مطلقة. ينفخ في البلاد ريح مسموم يأكل الأرض ومن كان في الأرض يحيا. منذ الصباح، تصبّ الشمس في الكون نارا سعيرا. يأكل الناس والشجر لهيب محرق. ينقضّ الحرّ على الوجوه، ينهشها نهشا. يشدّ الجسم لهبّ من جهنّم. تضيق الأنفس. يصبح العيش عسرا. أكره الصيف وما في الصيف من شمس فوق الرؤوس ومن تحت محرقة. أكره العيش في هذا البلد. في هذا البلد، نار حاميّة كتلك التي لقيتها في مكّة المكرمة . لا فرق بين تونس ومكّة. في مكّة، الشمس جهنّم. في مكّة والناس من حولك في عفس، يتضاعف العسر وأنت تدور بالكعبة وسط بشر كالنمل جاء من كلّ برّ. في مكّة، رغم ما كان من مكيّفات، هناك حرارة لا تطاق. لا أدري كيف العيش في مثل هذا الفرن. العيش، في مكّة، عصيب، مستحيل. أعرف اليوم لماذا توعّد الاسلام الكافرين بنار جهّنم. في مكّة، لمّا زرتها للحجّ، فتح الله فيها بابا من أبواب جهنّم. نار سعير تأكل الناس والشجر وكلّ أخضر حيّ. لا شيء حيّ في مكّة. الكلّ في شبه موت يسعى. لا مستقبل لبلد فيه شمس لهيب. كلّما اشتعل رأسي حرقا، أبلّل شعري بماء زمزم وقبل أن أنتهي يجف الماء ويهتزّ شعري يابسا، عصيا. في مكّة، الشمس سعير. تنظرها فتراها فوق رأسك، تأكلك، مشتعلة. تختفي. تمشي الى الظل فيأتيك اللهب حيث اختفيت. أعود أجري الى الفندق، لأحتمي، لألتقي وجها لوجه مع المكيّف. لو حصل انقطاع في الكهرباء لحصل انقطاع في التنفّس. الحياة في مكّة هبة المكيّف. لا أعلم كيف حجّ أبي قديما مرّات عدّة وكيف استطاع ملاقاة الحرّ في مكّة. أعلم لماذا ماتت أختي مريم في مكّة وما كانت أختي مريم عجوزا أو بها مرض. في ما أعلم، ضربتها شمس حاميّة. قتلتها، في يوم وليلة. رحم الله أختي مريم وكلّ من مات في مكّة، حرّا...

في الصيف، أخاف القرية وأبقى في العاصمة حيث المقاهي والمحلات مكيّفة. أحيانا، عند الظهر، لمّا يشتدّ الحرّ وينفخ في السماء والأرض ريح الشهيلي، أمشي، مضطرّا، الى السينما. في قاعات السينما مكيّفات مبرّدة. لا أنظر في الفيلم. لا يهمّني ما جاء في الشريط من قصّة. في قاعة السينما، أتمتّع بما كان من برد. أنام ملء عينيّ ساعة أو ساعتين. في قاعة السينما، كنت والعديد من حولي في نعاس، نشخر، في نعمة. ينتهي الفيلم، نستيقظ وهذا ضجيج وحركة. ننهض. نخرج الى الشارع فنلقى وجه جهنّم. أحيانا، لمّا تشاء الصدف، أصطحب رفيقة. نمشي الى السينما لننعم بالحياة الدنيا، لننظر في بعضينا وقد هزّنا الوجد هزّا. ننسى الحرّ والشمس وما كان في الأرض من عذاب وقيظ. العشق برد وسلام. الحبّ للمحبّين، صيفا وشتاء، رحمة وتقوى. الحبّ صالح لكلّ زمان ومكان. في البرد وفي الحرّ أيضا...
  

يبغض المسلمون الحبّ. يرى المسلمون في الحبّ منكرا. هو فساد ورجس من عمل الشيطان فاجتنبوه، يقول الشيوخ والأيمّة. كذب الشيوخ والأيمّة. ما كان الحبّ فسادا أو رجسا. الحبّ عبادة وتقوى يأتيه المتّقون والملائكة والجنّ. الحبّ روح الله في الأرض تسري. هو القدس المقدّس. الحبّ هو سرّ الوجود وكنه الحياة ونور السماء في الأرض تسري. بالحبّ نحيا ويوم نموت ويوم نلتقي في الجنّة الأخرى. كيف العيش بلا وجد والوجد وجود؟ كيف العيش بلا حبّ والحبّ طوق وحبور ومودّة؟ بلا حبّ تغدو الحياة بلا معنى. بلا حبّ، تكون الحياة بلا سرّ...

كره العرب الحبّ ولاحقوا المحبّين. غدا الحبّ في أرض المسلمين حراما فأصاب المسلمين كبت عميق. غدا الكبت سمة قارّة، مشتركة. من ثمار الكبت العقد. سكنت قلوب العرب العقد. كبّلت العقد أيديهم وأعمت بصائرهم. أصبحوا في عجز، في غيب، في كند. بلا وجد تفسد الحياة وتنعدم. بلا حبّ تموت الحركة... في بلاد العرب، حرّم الحبّ وحلّلت البغضاء. انتشرت بين الناس الكراهيّة. انتفض الشرّ قائما. أنظر في العرب اليوم. سوف ترى. العرب اليوم وهم يفسدون في الأرض، يتقاتلون ويقتلون، يرهبون ويخرّبون. في أرض العرب شرقا وغربا هناك حروب وارهاب وتخريب. أصل البلاء ما يحمله العرب في صدورهم من كبت. لن يفلح للعبد المكبوت سعي. لن يستقيم للعبد المكبوت نظر... لتخضرّ الأرض وتشرق، يجب أن نعيد للحبّ مكانته. يجب أن نحبّ الحياة. يجب أن نحبّ أنفسنا والناس كلّهم وما كان حولنا من شجر، من بحر، من طير، من زهر، من نجوم، من أديان مختلفة. يجب أن ننتهي من البغضاء والحقد لتعمّر أرض المسلمين، يجب أن يحبّ المسلمون المسلمين والناس الآخرين. العرب اليوم في خسران. في نار جحيم، لأنّ المسلمين في كبت... الكبت هو أصل البلاء. الكبت هو سبب الدمار الذي نرى ونحيا.
  
كلّ عشيّة، أنا وزوجتي وحيدان في البيت ومعنا البنيّة. في البيت، لنا عادات مستقرّة. في البيت رتابة متّصلة. كلّ لوحده. كلّ لشأنه. كلّ يأتي ما له من أمر. أكلنا النظام والتنظيم. في البيت، لا ضوضاء ولا خروج عن الموضوع. في البيت، لا جديد. لا نتكلّم الا قليلا. ماذا عسانا نقول وقد قلنا في ما مضى كلّ شيء؟ مع الزمن، يتراجع القول. ينتصب الصمت. يشدّنا فتور. الجسم مرهق. الحواسّ تنطفئ. يكثر النسيان. يبدأ الرحيل...

يجب أن أخرج للناس، أن ألهو، أن أشارك المجتمع همّه، أن أفعل شيئا يفيد وينفع. هذا ما يجب أن أفعل حتّى لا يقتلني التعوّد وحتى لا تخذلني رتابة الأيّام وهي تجري. حتّى أحيا، كنت أسعى الى الحركة سعيا وأكدّ وأجتهد حتّى ألقى ما يشدّ النفس وأبقى. لكن، في كلّ مرّة أفشل في المسعى وأعود الى نفسي وفيها أتخبّأ... مع السنين، تنتهي الصلات. تضيع العلاقات. تتعوّد الوحدة. تنزوي. تتوحّد. انّه الموت الاجتماعيّ يبدأ... بقيت الكتابة. الكتابة عندي هي الملجأ. في الكتابة أحيا، ألقى لذّة. أتلهّى. أعود الى الصبا، الى أمّي، الى ذاك الزمن الجميل. أنا اليوم أحيا على الذكرى. أعيد ما فات من الزمن. لا يهمّني اليوم ولا الموجود. لا تهمّني السياسات وما قاله الشيخان وما كان في مجلس نواب الشعب من سقط ومن شغب... كلّها ترّهات. كلّها بهلوانات لا تسمن. رجال السياسة ونساؤها كلّهم لهم غايات خصوصيّة، مخصّصة. كلّهم يريدون الغنيمة. كلّهم يريدون الكسب... دعني من هؤلاء الشياطين، دعني من نفاقهم ومناوراتهم فهي متعبة، مرهقة. يجب أن أحيا لنفسي. أن أكون للأنا. أن أعتني بذاتي دون سواها. يجب أن أعود الى ما فات من الزمن وفي ما فات من الزمن ألقى صدى لنفسي وصدقا... أتذكّر البنيّة الفرنسيّة وما كان لي معها يوم كنت حمّالا، في فرنسا، صيفا. ماذا فعلت مع تلك البهيّة؟ هل كنت حقّقت الأمنيّة؟

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115