1 - العلاقة المتينة بين التلوّن في الألقاب/ والتلوّن في اللباس: بدأ عمله السياسي مرشدا لينعت بعد الثورة بالشيخ واليوم يلبسه إعلاميو نسمة جبّة الأستاذ. وساير هذا التلون في اللقب التلون في اللباس، وحذار فللباس دلالة عند مناضلي حركة الإخوان: لاحِظو طريقة لباس رجالهم وطريقة احتجاب نسائهم ، إن هو إلاّ إعلان مبايعة للقياديين، مبايعة تلازمهم في حلّهم وترحالهم، وفي جميع دقائق حياتهم.. فهل وجدت، على سبيل المثال قبل الثورة إخوانيا أو إخوانية يتبنّى لباسا تقليديا؟ كلاّ وألف كلاّ، فالوطن بالنسبة إليهم يتجاوز حدود الأرض ليحلّق بهم في أجواء الفضاء الإيديولوجي، وعلى هذا الأساس يكون الإخوانيّ في جيبوتي أخا في العقيدة أقرب إلى الإخوانيّ من ابنه أو ابنته إن كانا يختلفان معه في الرؤية.
وإذا بالشيخ أستاذ في نظر البعض، وكأنّهم تحوّلوا إلى طلبة علم يلهفون أمامه في تلقّي المعرفة منه، غير أنّه صار في نظر الحداثيين « ميسيو» ، ركّبت عليه ربطة العنق تركيبا فأحدثت نشازا ما بعده نشاز، لسائل أن يسأل لماذا هو نشاز؟ والجواب بسيط لأنّ المسمّى « بالشيخ» صار منبتّا ، وبات في نظرنا مجسّما لبيت المتنبّي:
أوجّهها جنوبا أو شمالا على قلق كأنّ الريح تحتي
2 - إفراغ المصطلحات التي يتداولها الحداثيون من دلالاتها لشحنها بمعاني تندرج في المعجم الاصطلاحي للإخوان: في الحقيقة تحوّلت هذه المغالطة إلى مبدإ قار في خطاب « ميسيو» غنوشي، وإني أعجب من افتقار بعض محاوريه إلى حضور البديهة في اقتناص الظاهرة عند مناقشته، وقد أذهب إلى أنّهم تلقّوا تعليمات باجتناب المواجهة، قد يكون ذلك. ولكن من واجب المفكّر الحرّ المنتبه أن ينبّه الناس إليها.
افتكّ الغنوشي مصطلح الديمقراطية ليقرنه بالإسلام، وليبشّرنا براية حزبه الجديدة وأنّه صار من أنصار «الإسلام الديمقراطي». وإن كانت المسألة في غاية الدقّة، وتقتضي دراسة متأنّية فلا بأس في أن ننبّه إلى المغالطة الكبرى التي تقوم عليها « عقيدته» الجديدة: وهي تكمن في المزيج الكيمياوي والمقرف بين مصطلحين غريبين عن بعضهما بعضا، ولا سيما في محاولة « عجنهما» عجنا عسى أن يفرزا مقاربة سياسية جديدة، تنجّيه من تهمة الانتماء إلى حزب صار مذموما مدحورا هذه الأيام. فيحتمي بها لينكر انتماءه إلى الإخوان المسلمين، أليس هذا مظهرا من مظاهره الغدر، والطعن في القفا؟ كيف لنا أن نصدّق مقالتك الجديدة التي أقمتها على النكران؟ لا تحتمي بالقاعدة الفقهية « الضرورات تبيح المحظورات» لأنّ التنكّر للأصل
يعتبر من المحرّمات في نظرنا، وأن العجب في إعجاب أنصارك بحلّك العجيب:
من السهل أن تنكر لكن لِمَ لم تعلن عن انسلاخك من مكتب التنظيم الدولي العام للإخوان المسلمين؟ وإن أضافوا اسمك كذبا فما عليك سوى التنديد، وماهو تفسيرك لانضمامك إلى الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، مع جماعة من قياديي النهضة؟ ورجاء لا تتعلّل بأنّ هذا التنظيم مستقلّ لأنّه الجناح المشرّع لحركة الإخوان وأنشطتهم بقيادة إمامكم القرضاوي الذي لم يتوقّف إلى اليوم عن التنظير للقتل والإرهاب، محتميا براية « الجهاد».. ثمّ ماهو تعليلك لما قمت به منذ 2012 من إعادة طبع لجملة من كتبك، كنت قد حررتها « أيام انقلترة».. كتب تنظّر للإسلام الحركي وترسي رؤية للمجتمع هي نفس رؤية الإخوان.. ومن بين هذه الكتب نذكر على سبيل المثال» الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في الإسلام» الصادر في سنة 2012.. ومن ضمن ما ورد فيه تأسيس لمفاهيم غربية بدلالات إسلاموية.. وتأتي اليوم لتنكر الطابع الإسلاموي لحركتكم..
وكتابك عن الحريات العامّة نشرته في 1990؟ وبقيت ثابتا على موقفك منه فأعدت نشره في 2011 الذي تسعى من خلاله إلى تأسيس مقاربتك في نشر الدعوة، كأن تذكر أنّ « من سمات المنهج الإسلاميّ الواقعيّة والمرونة» وهي مقولة تجنّب النهضاويّ المواجهة وتفتح له مجال اتقاء المصادمات في سبيل بلوغ مأربه. أنت يا سيدي لم تخن مبادئك، وإنّما حفظتها في طيات عباراتك وتنظيراتك، وخزنتها في الذاكرة الجماعية لأنصارك الذين اطمأنّوا لحال القُلّب التي أنت عليها، كيف لا وقد أرسلت إليهم رسائل مشفّرة من نوع الرضوخ حتى يقام حكم الإسلام ولو بعد حين (الحريات العامّة ص 364).
أمّا كتابك «عن المرأة بين القرآن وواقع المسلمين» الذي صدر في أوائل الثمانينات ثمّ بقيت على ثوابتك فأعدت نشره مرّتين ، ونظمت جلسات حوارية في استنباط معاني الكتاب بعد الثورة، أي أيام صياغة الدستور، أيام كنت عازما على شحن أفكارنا بأنّ المرأة مكمّلة، وناقصة عقلا ولم لا دينا. فذاك الكتاب قضية أخرى، صرّحت فيه بموقفك من المرأة ، واعتبرت وظائفها متمحورة حول وظائفها الجنسيّة ص50.... وشنّعت بمجلّة الأحوال الشخصية لتعتبرها دافعة إلى تغريب المجتمع... واليوم تقف لتمجّد المجلّة بل تذهب إلى الإطراء على القانون الأساسي المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة، وتأمر نوابك بالتصويت عليه. ألا توجد تضحية أعظم من هذه؟ وخوفي أن تكون تضحية إلى حين.. إلى أن يشتدّ عودكم بعد أن انكسرت شوكتكم..
فإن كنت صادقا في تحوّلك أنتظر منك أن تعلن رسميا وبخطاب لا لبس فيه تخلّيك عن هذه الكتب وما تحمله من «أفكار» عدوانية.. ولم لا أن نقوم معا بتنظيم حفل رمزي نحرق فيه هذه الكتب؟ .. فتكون قد ارتقيت إلى رتبة ابن رشد وأنت الحائز على جائزته.. أرجو ذلك..
قضايا هامّة ، وتقتضي من الباحث أن يقف عند كلّ نقطة منها بالتحليل الرصين عسى أن يهتدي إلى منهج المغالطات الذي تفانى البعض بتسميته بالتوافق والبعض الآخر بالمنهج الواقعي الذي اثّر في الحركة.. ولكنّه في الحقيقة هو تطبيق للقاعدة « الضرورات تبيح المحظورات».. ولعلّ أخطر المغالطات ما ينادي به هذه الأيام بأنّهم صاروا « مسلمين ديمقراطيين» . كم تخيفني هذه العبارة لأنّها صنيعة أردوغان الإخواني ولأنّها تضمر تحوّلا من إسلام ديمقراطي إلى « أسلمة الديمقراطية» وعندئذ « إيجاني يا علي بعشاك»...
3 - بقيت مسألة أخيرة لا أقدر على تجاوزها ، وهي تنضوي ضمن المغالطات: هي النزعة إلى مخاتلة التاريخ، ورغبة في كتابته بيدٍ نهضاوية: فملفّ الترويكا لم يفتح بعد كما يجب، ومقارنة يوسف الشاهد بمهدي جمعة خاطئة لأنّ جمعة كان اتفاقا بين الرباعي المحاور آنذاك وبقية الأحزاب، بينما الشاهد فهو يمثّل حزبه الذي رشّحه، ولا يوجد قانون في العالم يمنعه من الترشّح إن أراد ذلك.. لذا يكفيك وصيّا على جماعتك، ولست غمامة نستظلّ بها من قيظ السياسة الحارقة، ولا بالأمين على أمّة التونسيين...
وإن كنت تعتقد أنّك ربحت نقاطا بظهورك الإعلاميّ فإنّي أقول لك: ساذج من يعتقد أنّك تريد الترشّح للانتخابات فالإمام في التنظيم الحركي يرى نفسه أرفع من الجميع ورتبته مقدّسة وأبديّة.. ولا يمكن أن يتنازل إلى مستوى الطموح المؤقت، وعليه فمن سيرشّحه الإمام يكون لسانه ويده وفكره. وقد استبق الأحداث إن قلت أنّ في مهدي جمعة إشارات إلى أنّه مرشّح النهضة بامتياز..
على كلّ فجميع ما ذكرنا لا يحجب حقيقة هي أنّ حضورك كان له وقع إيجابي، فقد ألهيتنا عن قيظ هذه الأيام، ودفعت بالناس إلى أن يتناولوا قضايا الإسلام الحركي بشيء من التندّر بعد أن كانوا يرتعدون لكلّ تصريح تقوم به. وفي الحقيقة وبصراحة يبدو أنّنا تعودنا على بعضنا بعضا.. وننتظر منك الجديد ...فشكرا على حضورك.