حديث الأنا: في حرّ الصيف والريح الشهيلي IV - في الصيف، موسم الهجّ الى فرنسا

لا أحبّ العودة الى القرية. أفضّل البقاء في تونس العاصمة والتسكّع في شوارعها. في القرية، العيش فراغ والحياة ضنك. في القرية، رتابة قاتلة ونار من جهنّم. أمّا العائلة أو ما تبقّى فكانت أيّامها في تفكّك وهذا إرث يحثّ على البغضاء والمنكر. كلّ لنفسه يسعى. كلّ لصالحه يكدّ. حين يموت أبوك وتتزوّج ثانيّة أمّك، ينتهي العقد الجامع وترى الإخوة، كلّ لأمره يجري، يستأثر، يغنم. من جهة أخرى، هجّ القرية كل أصحابي وغادرها كلّ من أعرف. هاجر الى فرنسا الشباب والكهول بعد أن ضرب

التعاضد الناس وأفسدت الاشتراكيّة الأرض والزرع. زمن التعاضد، أصاب العباد بؤس وفقر. هجّ الكلّ. اقفرّت الأحياء. لم يبق في القرية غير النساء ومن تقدّم به العمر. غدت القرية دارا للعجّز. غدوت في القرية غريبا.

أفضّل البقاء في تونس وحيدا. كنت أقول لمن يسألني عن تواجدي دوما في العاصمة «أنا طفل من أطفال بورقيبة. لا أهل لي ولا أقارب». كذلك، عشت لوحدي، تلميذا وطالبا. ما كان الوضع هذا يقلقني ولا هو يشرح صدري. ذاك عيشي منذ كنت شابّا في المعهد الثانوي بسوسة. كذلك عشت لمّا كنت طالبا ولمّا اشتغلت في السكك الحديديّة. ذاك هو قدري. تعوّدت الوحدة ولا أرى في الوحدة سوءا ولا ضرّا. في الوحدة لا محالة فضائل. أحيانا، أحنّ الى أمّي. أحيانا، أودّ من العائلة عناية ونصرة. لأنّي عشت وحيدا، أصبحت وليّ أمري. لا رقيب عندي ولا ناظر. أنا صاحب قراري. أمشي في الأرض حيث شئت. أفعل ما ارتأيت. ألتقي مع نفسي، في زهو، في حزن، في طيش. أجوب الشوارع والأزقّة، بلا غاية، بلا قصد. أنا صعلوك معاصر. أحيا حياتي لوحدي في حرّيّة وقلق.

أكره العائلة بل وتراني أسعى حماية لنفسي إلى قطع صلتي بإخوتي وبمن كنت عرفت. كنت أجتهد لأمّحي ما علق في نفسي من رؤى، من مرجعيات، من قيم في صدري... أصبحت العائلة عندي موطن الإفساد والبغضاء والتفرقة. العائلة حاضنة مكبّلة. فيها تتأسّس التقاليد وترفع الحواجز وتبنى القيم وغيرها من الحدود الأخرى. أنا أكره العائلة وما كان في العائلة من حصر ومن خنق. كانت العائلة مفكّكة. لا أحد يهتم. لا أحد ينظر إليك. أنسلخ منها وتنسلخ منّي. أنا أحيا لوحدي. أنا خطاف في السماء العليا. أنا فكر حرّ. أنا من اليسار واليسار حرّيّة، رؤى مختلفة، مثل أخرى. لتحيا كما ترى وكما شئت يجب أن تقطع الصلات مع الرحم، أن تنسى، أن لا تنظر الى الخلف. لا أحد في الخلف. فقط أمّي وكانت معذّبة في الأرض. لتكون يجب أن تتصدّى، أن تلغيّ الموروث، أن تقتلع ما كان فيك من علامة ورسم... أصل الأنا عقوق. أوّل البناء عصيان. أنا بانيّ نفسي. لي مثلي، فكري، غاياتي. أنا كائن فرد. كلّ السماوات والأرض تحت إمرتي. أمشي حيث شئت. أنظر كما شئت. أنا الريح. أنا كوكب يسري. يحملني التوق إلى العرش...

لا أحبّ الرجوع الى القرية وفي القرية حدود ورسوم وإشكاليات مختلفة. لا أحد يحبّك في القرية. لا أحد ترضاه وبه تأنس. لا أحبّ العيش في تونس وفي تونس، الصيف جهنّم وبؤس. أنا في ضيق. أنا قلق. لا شيء في الأرض له معنى. لي رفاق عدّة. كلّ الرفاق، مثلي، هم في ضيق وشدّة. في كلّ صيف، أسعى الى الرحيل. أتدبّر كيف الهجّ الى الغرب، كيف الهجرة. الغرب هو المنارة عندي. إليه أتوق وإليه أحجّ. كنّا يومها جميعا معجبين بالغرب وبما كان في الغرب من حرّيّة مطلقة ومن فكر مشعّ. الغرب عندنا هو الحداثة والحداثة أولا وأساسا هي إيلاء العقل مكانة أولى، مكانة كبرى. مع الحداثة، خرج الانسان من القصور إلى الرشد. نزع ثوب الدين عنه. أصبح هو المركز وإليه يعود الأمر والنهي. في الغرب، هناك حداثة تدفع، تحثّ. في الغرب، أصبح الفرد هو المرجع. هو القادر على النظر، على استنباط ما يلزم من سبل ومنهج. مع الحداثة، ألغيّ الغيب وقطعت يد الربّ. انتهى القدر وكان هو المكبّل. انتهت السماء وكانت السماء هي الماسكة برقاب الناس، بالخير وبالشرّ. في الغرب، حياة الناس ملك للناس. قوى المجتمع تتشكّل، تكون بما كان بين العباد من علاقة، من نفع ومن ضرّ. الصراع هو الأصل في الفعل. هو المغيّر للأشياء ولا دخل للسماء في الدنيا. لا دخل للسماء في ما يجري...

ذا هو الفكر الذي كان يومها نافذا، مسيطرا. ذاك هو المنوال الذي كنت به مؤمنا وإليه أسعى... كانت تونس يومها الى الحداثة تكدّ، وكنّا نجتهد للأخذ بعلوم العصر، للتخلّص من الغيب، من الخرافة، من الشعوذة. كنّا نحفظ اللغات لننفذ الى العصر، لنتبيّن ما في الدنيا من نظم مميّزة. كان الغرب هو القبلة وكانت وجوهنا الى القبلة تصلّي...

***
ثم، بعد الثورة خاصّة، نزل الليل فجأة وانتشرت الظلمة وأحرقت النار الأخضر والأزرق وكلّ الألوان الأخرى. تبدّل الوضع. ساءت الأحوال. عدنا. ها نحن نعود الى القرون الوسطى. ها هو العقل من جديد يكبّل، يلغى. ها هي الظلمات تنتشر، تلفّ الدنيا. قضايا تونس والعرب غدت سخافات وتفاهات مختلفة. الكلّ فكره مشدود الى الخلف، ينظر في السلف، في السماء العليا، في ليلة القدر، في عذاب القبر، في يوم الحشر... الكلّ يصلّي الليل والنهار ويتهجّد ويعتقد أنّ بالصلاة وبالصوم سوف ينجو وتكون له الجنّة. الكلّ ينتظر، ينتظر الأخرة وينسى اليوم وما في الحياة الدنيا من إشكالات، من تحدّ، من خير وشرّ. كثرت الصلوات واشتدت التقوى... كثر اللغو في سبيل الله. كثر الإرهاب في سبيل الله. كثر الكذب والنفاق في سبيل الله. كثر النكاح في سبيل الله. كثر الإرهاب في سبيل الله. أضاع الناس السبيل وتاهوا في كلّ أرض...

خطوة، خطوة وبتعديلات متّصلة، بالتعريب، بالترهيب، بالتكفير، بالتجهيل...، ها نحن نغلّق الأسوار ونوصد الأبواب. ننزوي. نحشر رؤوسنا في الرمل. نرفض الآخر لأنّه كافر، لأنّه مختلف، لأنّنا خير أمّة في الأرض. ها نحن نعود الى الصفر، نعود الى الظلمة. رويدا، رويدا، طلع من تحت الأرض دود أسود يحمل الموت، في الغيب يحيا، يمشي الى الموروث يسعى. يلغي العصر. يقتل العقل. يمنع كلّ نظر. يسدّ كلّ السبل الأخرى... حين ترى اليوم ما يجري في تونس من رداءة وفي بلاد العرب من هتك، تدرك أنّنا تخلّفنا، أنّنا في الدرجة السفلى... انصت الى رجال السياسة وما يقولون من سفاهة ومن سقط وانصت الى رجال الدين وما يأتون من نفاق ولخبطة وانصت الى الشباب وما يحكي من تفاهة كبرى واستمع الى الناس، الى الأساتذة الجامعيين، الى الأطبّاء، الى المحامين، الى العامّة، الى الخاصّة... ولسوف ترى ما نحن فيه من رداءة قصوى...

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115