مرّة، عند الظهيرة، كنت أشرب قهوة في مقهى «البلاص» وسط العاصمة. في البلاص، كل يوم، أشرب قهوة. النادل في المقهى صديق قديم. أحبّ الحديث مع جمعة. جمعة نادل ظريف. إن كان لي مال دفعت وإن لا مال لي أدفع مرّة أخرى. أنا رجل ثقة. بيني وبين جمعة تاريخ ومودّة. كان جمعة قصير القامة. له شفتان غليظتان وابتسامة دائمة في وجهه الأسود. أحبّ الناس السود لما لهم من دماثة أخلاق وجمال وجه. لدى النساء السود جمال خصوصيّ. لهنّ أجسام منحوتة وصدور قائمة ولحم شهيّ. تعتني النساء السود بجمالهنّ. ليت التونسيّات يفعلن ما تفعله أخواتهنّ. في السنوات الماضيّة، حلّ بيننا البنك الافريقيّ. سكن حيّ النصر عديد الأفارقة السود. ازدان حيّ النصر بالنساء السود وببناتهنّ. حصلت حركيّة. كلّ عشيّة، أخرج عمدا لأرى وأتمتّع بما للنسوة السود من تسريحات شعر، من فساتين زاهيّة، من أجسام حوريّة...
لا أدري لماذا يكره العرب السود. يكره العرب السود وكلّ الألوان الأخرى. يعتقد العرب أنّهم أحسن أمّة. أحبّ جمعة لما في قلبه من طيبة ولما في لسانه من رقّة. منذ سنين، أرتاد مقهى البلاص وفيه أشرب قهوة. ألتقى مع جمعة. أتحدّث اليه. يخبرني بما كان في المقهى ولا شيء يجدّ في المقهى... كنت يومها جالسا كالعادة في طاولتي، على اليمين بجانب الواجهة البلوريّة. كل يوم في المقهى، بجانب الواجهة البلّوريّة، أقضي ساعة أو أكثر. أنظر في الحرفاء مرّة وفي من كان مارّا في الشارع، من رجال ونسوة، مرّات أخرى. أضع ساقا على ساق. أفرك وجهي ولحيتي وشعري. أشرب قهوتي قطرة قطرة. أضيّع الوقت. الناس جميعا في المقهى وخارج المقهى يضيّعون الوقت. تونس جميعا تقتل الوقت. لا قيمة للوقت في هذه الأرض. ليس للوقت عندنا معنى. الوقت من عند ربّي ولا أحد عليه بمسيّطر. يأتي الوقت كما شاءت الأقدار ثم هو يتوقّف أو يمضي كما شاءت السماء العليا. فلا تسرع فانّ الموت أسرع وكلّ أمر بقضاء، يسير بالقدرة...
***
كنت في مقهى البلاص في بعض وجوم، سارحا في الأرض، أنتظر قضاء ربّي لمّا رأيت رجلا في الخمسين من العمر ينظر اليّ، ملحّا. ما للرجل ينظر فيّ؟ هل هو يعرفني؟ هل رأيته من قبل؟ لا أعرف الكهل هذا ولم أر له من قبل وجها. لماذا هو يحدّق فيّ؟ يبتسم اليّ؟ لا أدري. أمر الرجل غريب. من خلف البلور، حييت الرجل الواقف أمامي وابتسمت له ابتسامة خفيفة. يردّ الرجل على تحيّتي بأحسن منها. يبتسم بحماسة اليّ. هو عبد مهذّب ولا شكّ. ها هو يعيد التحيّة. هو رجل له أخلاق وخلق. فسدت الأخلاق في هذا الزمن الذي نحيا. انهارت القيم، يقول أخي الأكبر، دوما. يدخل الرجل المقهى وعلى محيّاه ابتسامة جليّة. يجلس قبالتي. يحادثني. كان يقول كلاما كثيرا. في الحرّ، في الوجود، في تفاهات أخرى. يسألني عن حالي وعن أحوالي ومن أين جئت وعمّا آتي في الحياة الدنيا. أنا طالب في عطلة. أشرب قهوة. أقتل الوقت. تحملني الأيّام حيث شاءت. أمشي كما شاءت الصدف. ابتهج الرجل بما قلت وأردف يقول مفاجئا وبسرعة «هل تودّ أن نقوم بجولة؟ حيث شئت» وأضاف «هيّا نتجوّل. هيّا نروّح عن النفس. نتعارف على بعضنا؟» قلت «لمَ لا ومعرفتك للرجال كنوز وقد سئمت المقهى». في ما أرى هذا الرجل مهذّب... قلت «أين تريد أن نذهب؟» قال «هيّا وسوف ترى. لا تنزعج فالحياة اطّلاع ومعرفة. لن نذهب بعيدا. ساعة ونعود الى المقهى. إن شئت. أو نمشي الى المرسى. إن شئت». قلت «لا بأس... هيّا نقوم جولة». اصطحبت الرجل دون ريبة. لمَ الريبة ونحن رجلان راشدان، نشكو القيظ ونريد الترويح عن النفس ساعة أو أكثر أو أقلّ؟ ركبنا سيّارته وكانت فاخرة، فيها اتّساع وكراس مريحة. أعجبت بالسيّارة الفخمة. هذا رجل غنيّ ولا شكّ. هو لطيف أيضا. أنا محظوظ ولا شكّ...
انطلقنا نمشي نروّح عن النفس قليلا. نظر الرجل فيّ مبتهجا وقال «ما رأيك؟ هل تريد أن نذهب الى جنان البلفدير حيث الأشجار العليّة والهواء النقيّ؟» قلت «لا بأس. فلنذهب الى البلفدير، إن شئت». كان الرجل دوما يبتسم ومن حين لآخر ينظر اليّ بحماسة. ذهبنا الى البلفدير وكانت الشوارع خاليّة وكانت حديقة البلفدير خلاء مخليّا. كان الرجل في زهو لا أفهم سرّه. ينظر في الشارع مرّة و اليّ مرّة. كان يبتسم ويقول كلاما عاديّا. هو رجل عاديّ. وصلنا الى الحديقة. ذهبنا الى الربوة، إلى الأقصى. في قبّة الهوى، وهكذا تسمّى، كانت الأشجار تئنّ من حرق الشمس وكان الصمت عامّا والخلاء مخيّما. في القبّة، في مكان منزو، أوقف الرجل السيّارة والتفت اليّ. نظرت اليه. رأيت في عينيه تأهّبا. قال كلاما لم أفهمه. قلت «لم أفهم قولك. هل لك أن تعيد ما قلت؟» أعاد الرجل القول ثانيّة ويداه تشّدان يديّ. أدركت القول وتبيّنت المبتغى. لا مجال الى الشكّ. أدركت الغاية من الجولة. هو رجل قلق، وحيد. شدّه الحرّ. يريد ترويحا عن النفس. يريد إطفاء نار في أحشائه تسري. نظرت في الرجل مليّا. سحبت يديّ من يديه. شدّني بعض توتّر. شدّتني حيرة. سألت نفسي «هل من علامة في وجهي، في ملبسي، دفعت بالرجل اليّ؟ لماذا وقع اختياره عليّ؟» أدركت أنّي وقعت في ورطة. حصل سوء فهم. طلع الرجل المهذّب غير مهذّب. طلع الطالب العتيّ غبيّا... لا لن أقول أكثر حول ما كان بيني وبين الرجل في تلك القيلولة في جنان البلفيدير. هذا شأن خاصّ. هذه أمور شخصيّة.
أعيد ثانيّة النظر في ما كتبت. أفكّر في ما كنت كتبت. إنّ الرجل الذي اصطحبت الى البلفدير له اختيارات وتوجّهات خصوصيّة. هو حرّ في ما اختار من توجّهات شخصيّة. لماذا كتبت عنه أنّه رجل غير مهذّب وكان الرجل طوال الجولة محترما، يقول كلاما سويّا؟ قضيت مع الرجل نحو ساعة ولم أر منه تجاوزا للحدود أو هو أتى فعلا مشينا؟ قال كلاما. مسك بلطف يديّ. شرحت له أنّي غير معنيّ. انتهت القضيّة. هل هناك قضيّة؟ أعتقد أنّي أخطأت في حقّ الرجل. أنّي أخطأت التقدير. ما كنت كتبت فيه تجاوز وأفكار مسبّقة. أظنّ أنّي لم أتحرّر من الأحكام المسبّقة، من العقد الضاربة فيّ. بقيت دوما ساذجا، بدويّا... أنظر. أعيد القراءة. أعيد الكتابة. أقول: أدركت ما يبتغيه الرجل المهذّب منّي وأفهمت الرجل أنّي لست معنيّا. أدرك الرجل المهذّب أمري وفي قلبه بعض حسرة. عدنا الى مقهى البلاص نشرب شايا حلوا محشوّا نعناعا طريّا. دفع الرجل الثمن. ضحكت أنا وجمعة والرجل برهة من الزمن ثم مشى كل إلى شأنه مسرورا...
(يتبع)