حديث الأنا: في حرّ الصيف والريح الشهيلي II - الانسان حركة...

ما أرى اليوم على شاطئ كاب زبيب يؤسفني. ما يحصل من تلويث للبحار ومن إفساد للشواطئ يحزّ في نفسي... كم نحن قذرون. كم نحن مفسدون. كم نحن صعاليك. أنظر من حولي فأرى القذارة وقد ملأت الشاطئ وعلى حافتيه. أنظر في الرمل فأرى وسخا من كلّ نوع. هذه قوارير وهذه قشور موز ودلّاع وبطّيخ. هذه حافظات رضّع ألقيت بما فيها على حافّة الماء. هذا أشعل نارا ليعدّ أكلا ويترك الفحم والرماد فوق الرمال حيث يلعب الصبية ويتمدّد المصطافون. هذه علب جعة منثورة. أنظر في الماء وقد اسودّت زرقته.

أنظر في السماء فأرى السماء ملبّدة... لماذا نفعل هذا؟ لماذا نخرّب الأرض والبحر ونفسد المحيطات كلّها؟ هل نعي ما نفعل؟ هل لنا إدراك وبصيرة؟ يشدّني كدر. أكره البشر جميعا. أكره هذه الأمّة. أكره نفسي. أعود إلى بيتي. تضيق بيّ الدنيا. لا أفهم. أقول لزوجتي يا هول ما رأيت. ألعن نفسي والعرب أجمعين. إنّه لشعب بائس، تعيس. لو كان لي نفوذ وسلطة لمنعت الشعب من السباحة، لحجّرت البحر على الرجال والنساء والصبية فهؤلاء ليسوا بشرا. هؤلاء جراثيم...
أمضي لأشياء أخرى. أسعى علّني أنسى. أعود الى البحر. تعود بيّ الذكرى. أسأل نفسي. ألم أفعل أنا أيضا هذا لمّا كنت صبيّا؟ ألم ألوّث وإخوتي والبغل شاطئ المنستير؟ ألم نترك المكان مملوءا روثا وبولا وقذارات أخرى؟ ذاك ما أتيته صبيّا ذات يوم، في شاطئ المنستير. لماذا أرى ما كنت فعلت طبيعيّا وأرى ما يأتيه غيري رجسا من فعل الشياطين؟ لا يرى الجمل حدبته. لا يرى الانسان سوءه... بقيت أنظر. أقارن. أبحث عن شرح، عن حجج... نعم، لمّا كنت طفلا، منذ نحو ستّين سنة، لوّثت البحر وألقيت على الرمال روثا وتبنا وقذارة. لكن، هل ما فعلته صغيرا يبرّر ما أراه اليوم من سوء؟ هل ما أتيت قديما يبيح ما يأتيه الناس الساعة؟ في ما مضى، كنت أتيت أفعالا متعدّدة، فيها خير وشرّ. في ما مضى، كنت اعتقدت في أشياء عدّة... هل أنا اليوم مضطرّ إلى حمل نفس المعتقد، إلى فعل نفس الفعل؟ هل لأنّي كنت، في ما مضى، يساريّا، يحتّم عليّ أن أبقى دوما مساندا لفكر اليسار وإليه وفيّا؟
لا أعتقد.

هذا منطق خور. ما أتيت قديما من قول ومن مسعى لا يلزمني اليوم أبدا ومن حقّيّ رفضه وصدّه ومن حقّيّ فعل نقيضه. ليس هذا عيبا ولا هو ردّة أو نفاق أو هو في الشخصيّة تمزّق... فقط، أنا اليوم عبد آخر. أنا الآن عبد مختلف. ما كنت قلت وما كنت به آمنت و ما كان لي من ثوابت وقيم هي اليوم كلّها تغيّرت، انقلبت، امّحت، عوّضت بأخرى. مع الزمن، أصبحت أومن بمبادئ أخرى، لي مٌثل مختلفة، أفق أخرى. الانسان كائن متغيّر. هو حركيّة. لا ثوابت له ولا قواعد. في كلّ يوم جديد يولد أنا جديد. في كلّ لحظة، يهدم الانسان، فكره وكنهه. في كلّ لحظة يتأسّس أنا جديد... في ما مضى، كانت لي أطروحات ومقاصد معيّنة. اليوم لي أطروحات ومقاصد مختلفة. غدا، سيكون لي نظر مختلف، فعل مغاير... لا أرى عجبا في هذا؟ ذاك هو الانسان الحيّ...

أعجب من الناس من يقول أن له مبادئ لا تتزحزح وأن له قناعات لا تتغيّر وأنّ له إيمانا راسخا وثوابت... كذب هؤلاء وإن صدقوا. أنظر الى نفسك لمّا كنت شابّا، لمّا أصبحت كهلا، لمّا تقدّم بك العمر ولسوف ترى عبر السنين كم مرّة تغيّر فكرك وكم مرّة صوّبت النظر وكم مرّة عدّلت القبلة... لست وحيدا في مثل هذا التغيير. كلّ الناس متقلّبون ولك في مثل هذا أمثلة متعدّدة. لليساريين، أذكّر ما كان لماركس من تغيّر في نظره وأطروحاته. ما كتب ماركس شابّا يختلف عمّا كتبه لمّا اشتدّ ساعده ونضج رشده. الفرق بينهما بيّن. بين الكتابة الأولى والثانيّة هناك فرق وحصل تغيير بعرفه الدارسون... نفس المسعى أراه في القرآن. ما جاء من آيات مكّية في أول الرسالة يختلف أسلوبا ومقاصد عمّا جاء في الآيات المدنيّة. في مكّة، كان الأسلوب شديدا، فيه قوّة ووعيد. لمّا كانت الهجرة واستقر الحكم في المدينة، جاء القرآن بنبرة مختلفة وجاءت السور والآيات وفيها لين ورحمة... القرآن، رغم صلاحه، حسب الأيمّة والشيوخ، لكلّ زمان ولكلّ مكان، احتوى اختلافا في بنية الخطاب، في مقاصده، بين المراحل... كذلك هو الانسان. خلق الانسان حركة وتغييرا... حسب الزمان والمكان، حسب الظروف، يتشكّل عقله وفكره ويكون. أمّا من لا يتغيّر له فكر ولا يتبدّل له معتقد فما هو بإنسان حيّ، يرتزق...
· · ·

لمّا أرى ما يحصل في شاطئ كاب زبيب من توسيخ وتلويث تشدّني غصّة. يؤلمني ما غدا عليه البحر الجميل من وضع بائس، مفزع. يجب أن أفعل شيئا. ماذا يمكن لي أن أفعل لحماية المحيط والبحر؟ كلّ يوم أحد، عشيّة، آخذ «شكارة»، أجمع فيها ما أبقاه المصطافون من قذارة. ترى المصطافين يلقون أمامك ما تركوا من زبالة، من حفّاضات. لا أحد يهتمّ. لا أحد مدرك لما هو يأتي. لا أحد يتحرّك فيجمع ما كان له من سقط. لا أحد يهمّه ما كان حوله من نجاسة، من روث... أكره الرجال والنساء وهم في غيّهم يعبثون ويلوّثون. أكره بغالهم وهي تروّث. أكره صبيتهم وماهم يفعلون من عبث وفوضى. أكره البشريّة جمعاء. أكره نفسي ويوم ولدت ويوم أموت. امّحى من ذاكرتي ما عشت في المنستير...

يجب أن ننقذ البحر. أن نحميه من المصطافين، من هؤلاء الهمّج. يجب أن نقطع أيدي الملوّثين وأرجلهم حتّى لا يقدروا على غزو الشواطئ وينتهوا من التلويث والهتك. يجب صدّ هؤلاء الدواعش وقد جاؤوا لحرق الأخضر، لطمس زرقة البحر. إلى متى سيتواصل الخور وهذا البحر والبرّ والجبال خرّبت وأفسدت؟ يجب حماية البحر. يجب منع الناس المفسدين من السباحة، من التجوّل، من مغادرة مساكنهم. لا حقّ للناس في السباحة مجّانا. يجب أن ننتهي من المجّانية وفي كلّ مجانيّة تلويث وفسق. يجب أن نحمي الطبيعة بكلّ السبل، أن نردع المعتدين وإن كثروا وانتشروا، وإن كانوا من الشعب، من الدواعش...

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115