منبر: إنّهم يبشّرون بثقافة الموت

عاش التونسيون عبر المواقع الاجتماعية حالة هستيرية بعد افتتاح مهرجاني قرطاج والحمامات.. والظاهر أنّهم فوجئوا بسلوك نائبات من النهضة وربّما نوّاب أيضا وهم يتابعون العرضين..

إذ احتموا بأصابعهم لتغطية أعينهم درءا لمحظور قد يحدِثه النظر... نعم النظر إلى أجساد تتحرّك أمام أنظارهم وقد تدفّقت بالحياة فانطلقت نحو الفضاء تنشد الإبداع.. ولا يسعني في هذا السياق أن أروي لكم ما أحدثه هذا السلوك في نفسي:

ذكّرني سلوك نهضوياتنا بقرطاج بحادثة اعتبرها القدامى دليلا استندوا إليه في التأكيد على سلبيات عمر بن الخطاب. وصنّفها القدامى ضمن الطعون العشرة على عمر. طبعا ، أتخيّل الجماعة وهم يقرؤون ما أكتب وقد حجبوا أعينهم وأفكارهم منعا للتفكير والنظر فيما أذكر.. لكن لا بأس فسأروي الحكاية، وإن كنت على يقين بما سينالني منهم من قذف، لأنّهم يعتبرون أنّ نقد حكم عمر وغيره من الصحابة والتابعين من المقدّسات. لكنّي أنّبههم بأنّي لست سوى ناقلة لما ذكره القدامى بدءا بالطبري إلى ابن سعد إلى ابن أبي الحديد، ولم أعثر على أيّ عالم منهم يكفّر غيره حتى وإن اختلف معه في المذهب أو التأويل:
صعد الكوريغرافي رشدي الركح ليرسم لوحات فنية تجسّم ما ورد في الأغاني من معان، وهي طريقة تعتبر من مراسم الفنون سواء كانت شعبية أو كلاسيكية غربية، لكن يبدو أنّ تغيير الفضاء كان له تأثير سلبي في نفوس من يعيش حياتين، وكانت الصدمة ، كيف لجسد رجل وهو عار أن يتحرّك ويقفز؟ كيف له أن يحاكي جسد راقصة ملتاعة؟ كيف لجسد ذَكَرٍ أن يرتعش وهو الفحل؟ كيف لهم قبول صفة أخرى لهذا الجسد ما عدا الإخصاب؟ وسرعان ما استحضرت حادثة عمر مع نصر بن حجاج، حادثة تروي تقريبا نفس الشيء، خروج الفحولة عن النمطية التي رسمت في أذهانهم، فجرّتهم جرّا إلى مقالات فقهية تحكي عن الشهوة، وإذا بجسد الراقص أمامهم هو جسدٌ عورةٌ لا يختلف عن المرأة باعتبارها عورة.. وبما أنّ أضعف الإيمان غضّ البصر فليكنْ، لكن لو كان الأمر في عهد عمر لحدث لرشدي ما حدث لنصر. وإليكم الحكاية.

كان من عادة عمر أن يعسّ ليلا، والعس هو التجسس على الناس عسى أن يعثر على مخطئ ليعاقبه.. واعتبر القدامى هذه الصفة في عمر طعنا من الطعون العشرة... وبينما يعسّ ذات ليلة انتهى إلى امرأة تغنّي:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها .... أم هل من سبيل إلى نصر بن حجاج

فلمّا أصبح دعا نصرا « فإذا هو من أحسن الناس وجها.. فأمر أن يجزّ شعره، فخرجت له وجنتان كأنّه قمر.. فأمره بأن يعتمّ، ففتن النساء بعينيه.. فقال عمر: لا تجاورني في بلدة أنا مقيم بها ، ثمّ سيره إلى البصرة.. فنزل بها على مجاشع السلمي، وكانت له امرأة شابّة فهويته.. فطرده إلى بلاد فارس، فنزل على دهقانة فأعجبها، فبلغ خبرها والي فارس عثمان بن أبي العاص، فبعث إليه أن اخرج عن أرض فارس.. فقال: لئن أخرجتموني لألحقنّ ببلاد الشرك، فأمر عثمان بأن يجزّوا شعره ويشمّروا قميصه ويلزموه المسجد إلى نهاية عمره..» وعندما قتل عمر عاد إلى المدينة. راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.ج12 صص 17.. طبقات ابن سعد ج3 ص 285. ج4،ص271..

هذه قصّة نصر أستحضرها بمناسبة ردود فعل نائبات من النهضة عند رؤية رشدي.. وليس لي من تعليل فقهي أقدّمه سوى أنّهنّ اعتبرن الآية « يغضضن من أبصارهنّ» عامّة و ناطقة بتلك المناسبة. خاصّة أنّ أجدادهنّ الفقهاء اعتبروا أنّ أوّل الزنا هو زنا العين...

استغلّ الفقهاء عبر العصور هذه الحادثة لتقديم تعليلات فقهية في شأن الأمرد من الرجال، والأمرد في نظرهم هو الجميل الذي يثير في الرجل الشهوة فأقرّوا بوجوب حجابه تأسيّا بعمر الذي أمر نصرا بالاعتمام.. والغريب أن يلتجئ البعض في وقتنا الحاضر إلى هذا الحلّ الفقهي، فتدخل الفتاوى سوق المزايدات ويتحوّل المسلم والمسلمة إلى متعبّد بها، من ذلك: نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى وَجْهِ الأَمْرَدِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الأَمْرَدِ عَنْ شَهْوَةٍ، أَوْ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ، وَالتَّمَتُّعِ بِمَحَاسِنِهِ، وَلا فَرْقَ بَيْنَ الأَمْرَدِ الصَّبِيحِ وَغَيْرِهِ، بَلْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الأَمْرَدِ بِشَهْوَةٍ أَشَدُّ إِثْمًا مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ؛ لأَنَّهُ لا يَحِلُّ بِحَالٍ.

أمّا نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي: فقد ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى أَيِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الرَّجُلِ الأَجْنَبِيِّ يَكُونُ حَرَامًا إِذَا قَصَدَتْ بِهِ التَّلَذُّذَ، أَوْ عَلِمَتْ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا وُقُوعُ الشَّهْوَةِ، أَوْ شَكَّتْ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ احْتِمَالُ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ، وَعَدَمِ حُدُوثِهَا مُتَسَاوِيَيْنِ؛ لأَنَّ النَّظَرَ بِشَهْوَةٍ إِلَى مَنْ لا يَحِلُّ بِزَوْجِيَّةٍ، أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ نَوْعُ زِنًا، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

وعلى هذا الأساس ليس لكم أن تلوموا يا سادتي هؤلاء وقد كبرت أذهانهم ونمت على ثقافة الحلال والحرام، وعلى أنّ كلّ شيء إنّما مرجعه الجنس الذي ينحدر بمرتكبه إلى الإحداث، ولا مستقرّ له سوى الجحيم والنار.. وتلك هي منابع ثقافة الموت.. ثقافة تجعل من الإنسان مخلوقا فزعا مرتعدا من كلّ حادث، بل وفاقدا لقدراته التي تجعل منه واعيا بإنسانية الإنسان التي خلقها الله سبحانه فيه.

تكرّر مشهد الاحتماء بالأصابع في حفل افتتاح مهرجان الحمامات، وذلك بمناسبة عرض توفيق الجبالي « لثلاثين وأنا حاير فيك»، ولتسمحوا لي مرّة أخرى أن أبحث عن عذر لهذا السلوك الذي بدأت أقتنع بأنّه غير إرادي، وأنّ الجماعة تحفزهم رغبة صادقة في التغيير وفي فصل الدعوي عن الدنيوي، لكن لا ننتظر منهم التنكّر في يوم وليلة لثقافة الموت التي تغذّوا منها منذ أن ولدوا. هذه المرّة أخفت نائبات النهضة وجوههنّ أمام فتيات جميلات، عانقن الحياة فطرن في أجواء الحمامات كأنّهنّ الحمام الملوّن، وبدل الانطلاق معهنّ انحبست نظراتهنّ في أجسادهنّ وأثقلت مرجعية العورة أعينهنّ.

في هذا السياق لم أتمالك عن استحضار مشهد فنّي رائع كانت قد قامت به المسرحية الفنانة رجاء بن عمّار، رحمها الله، أمام زعيمهم راشد الغنوشي بمناسبة المواجهة التي كانت بيني وبينه بفضاء الحمراء، حيث استدرجته إلى عالم فنّها في الارتقاء بجسدها إلى فضاءات يملؤها النور ثمّ النزول به إلى أعماق الأرض الكالحة لتسأله كيف لهذا الجسد أن ينطق إذا حكمت عليه باللفّ وقيّدته بالحبال ؟ عندئذ احتار شيخهم ولم يقدر سوى على استحضار ما يلقّن في برنامج الفلسفة بالباكالوريا في مفهوم الفنّ.

فليعتبر رشدي نفسه إذن محظوظا . كيف لا وقد نجا من حكم النفي من أرض الإسلام. لكن خفي عن هؤلاء أنّ تراثنا غنيّ بالدلائل على أنّ المجتمعات الإسلامية، حتى تلك التي عاشت الفتوحات، كانت مجتمعات حيّة وتنبض شرايينها عشقا بالحياة.. وما عاشه عمر من معاناة مع المجتمع الإسلامي آنذاك ليس سوى دليل على ذلك.. فليرفعوا عن أعينهم حجب النمطيّة، واعتبار أنّ كلّ شيء كان واضحا وبسيطا، لأنّ العقيدة مسألة في غاية الدقة والتعقيد.

ما يحدث من تصرّف يجعلني أخاف على تراثي، أخاف على برامج التعليم ببلدي، كيف لا وقد درسنا نحن قصيدة المغتسلة لأبي نواس في الثانوي، فنشأ جيل عقلاني، أخاف على كلّ صورة رسمها الشاعر ولا تعثر فيها على أيّة إشارة إلى جنس، بل أنت تقف أمام لوحة فنيّة راقية. أنقل إليكم القصيدة حتى تلمسوا روح الإبداع في القدامى والتي صرنا نفتقر إليها نحن اليوم:
نَضَتْ عنها القَمِيْـص لصَبِّ ماءِ فَـوَرَّدَ خَـدَّها فَـرْطُ الحيـاءِ
وقَابَلَـتِ النَّسِيـم وَقَدْ تَعَـرَّتْ بِمُعْـتَدلٍ أرَقّ مـِنَ الـهَـوَاءِ
ومَـدَّتْ رَاحَة كالـمَاءِ منْهَـا إلـى مَـاءٍ مُعَـدٍّ فـي إنَـاءِ
فَلَمَّا أَنْ قَضَـتْ وِطْرًا وَهَمَّـتْ عَلى عَجَـلٍ لِتَـأْخُذَ بالـرِّدَاءِ
رَأَتْ شَخْص الرَّقِيْب على التَّدَاني فَأَسْبَلَتِ الظَّـلاَمَ على الضِّيـاءِ
فَغَـابَ الصّبْحُ مِنْها تَحْتَ لَيْـلٍ وَظَلَّ الـمَاءُ يَقْطُـرُ فَوْقَ مَـاءِ
فَسُبْحَـانَ الإلـهِ وَقَدْ بَرَاهـا كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ النِّسَـاءِ

فأين نحن اليوم ممّا يختزنه التراث؟ وهل كانوا قديما يعتبرون انفسهم أهل شقاق؟ أليس النفاق هو الذي يكبّل اليوم ألسنتنا وعقولنا؟ ثمّ تتساءلون بعد ذلك من أين أتى الإرهاب؟ « وموش متاعنا» لا بل هو متاعكم لأنّه ساكن فيكم ومتمكّن بأحاسيسكم وتفكيركم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115