هل دخلنا عالـم ما بعد العولمة ؟

استضافت ألمانيا والمستشارة ميركل يومي 7 و8 جويلية الفارطين قمة مجموعة العشرين بمدينة هامبورغ الألمانية – وهذه المجموعة ظهرت مباشرة إثر الأزمة المالية العالمية وعملت

على خلاف مجموعة الثمانية على تشريك البلدان الصاعدة في إدارة الاقتصاد العالمي.وشكل تكوين هذه المجموعة تطورا مهما في حوكمة العولمة وانعطافا مهما على المؤسسات الموروثة عن الحرب العالمية الثانية والتي تقتصرعلى البلدان المتقدمة.

وكان تكوين هذه المجموعة وفتح المؤسسات العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي على البلدان الصاعدة كالبرازيل والصين والهند والعربية السعودية وجنوب إفريقيا وغيرهم تحولا كبيرا في العلاقات الدولية يفتح هذه الحوكمة للبلدان القادمة من الجنوب والتي أصبح دورها في الاقتصاد مهما ولا يمكن بالتالي قيادة العالم وخاصة إدارة الأزمات بدونها .

ومنذ أول اجتماع قمة لهذه المجموعة سنة 2008 عقدت هذه المجموعة عديد الاجتماعات والقمم بمعدل اجتماع ككل سنة وعديد الاجتماعات على عديد المستويات بصفة خاصة وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية. ولئن يصعب تقييم عمل هذه المجموعة في هذه الفترة الزمنية القصيرة فإنه يمكننا القول بانه ولئن لعبت دورا هاما في إدارة الأزمة الكبرى لسنوات 2008و2009 وأنقذت الاقتصاد العالمي من أخطر انتكاسة عرفها منذ 1929 فإن هذه المجموعة لم تنجح في دفع الاقتصاد العالمي وإعطائه دفعة نمو جديدة ودفع الإصلاحات الكبرى لدمقرطة هذا النظام العالمي وفتح مؤسساته الكبرى لمزيد من التعدد والديمقراطية .

لقد عرفت مجموعة العشرين شيئا من التهميش على مر السنوات الأخرى .ولم تعد تحظى بنفس الاهتمام التي كانت تعرفه في السنوات الأولى لظهورها والذي جعل من اجتماعاتها قبلة العالم ونتائجها منتظرة من أغلب المؤسسات والبلدان.إلاّ أن اجتماع هذه السنة اختلف كثيرا عن سابقيه باعتباره قطع مع الجو الهادئ الذي كانت تعرفه اجتماعات هذه المجموعة في السنوات الاخيرة ليشهد أجواء مشحونة ومليئة بالعنف مما عاد بنا إلى أجواء الاجتماعات الكبرى والقمم العالمية في نهاية تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية والتي كانت تعرف الكثير من العنف ومواجهات كبيرة داخل قاعات الاجتماع كما خارجها بين قوات الشرطة والحركات المعادية للعولمة .

إذن عادت بنا قمة العشرين في مدينة هامبورغ هذه السنة إلى أجواء العنف والتشنج والمواجهات الحادة وقطعت بالتالي مع الأجواء الهادئة والسلسة للاجتماعات السابقة – فقد عرفت قمة هذه السنة رجوعا هاما للحركات المناهضة للعولمة ومنظمات المجتمع المدني والتي قامت بمظاهرات ضخمة لم نعرفها من قبل .وقد تمخضت المظاهرات عن مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة والأمن المكلفة بحماية القمة.وقد كانت هذه المواجهات وراء حالات نقد كبيرة موجهة للحكومة الألمانية والمستشارة ميركل بسبب درجة العنف المبالغ فيه والذي واجهت به قوات الشرطة المتظاهرين وكذلك اختيار مدينة هامبورغ والتي لا تقدم على خلاف عديد المدن الألمانية الأخرى ظروفا أمنية حسنة لتنظيم قمة بهذا الحجم.

وقد شد مستوى مشاركة الحركات المناهضة للعولمة وحجم المظاهرات التي تم تنظيمها اهتمام جميع المتابعين وعديد الملاحظين.ولئن أشار البعض إلى أن هذا الحضور الهام هو نتيجة لتنظيم هذا الاجتماع الهام في مدينة هامبورغ والمعروفة بقوة وعراقة الأحزاب اليسارية وحركات المجتمع المدني الموجودة فيها فاني اعتقد أن هذه المشاركة وعودة الحياة لحركات المجتمع هي سياسية بالأساس ومرتبطة بنهاية التوافق حول العولمة.وهنا لابد من الإشارة إلى انه بعد سنوات الرفض والنقد والمواجهة في تسعينات القرن الماضي فقد عرفت العولمة نوعا من التوافق مما أدى إلى تراجع تعبئة الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني ضدها- إلا أن عودة هذه التعبئة تشير إلى أزمة هذا التوافق وتراجعه نظرا للنقد الكبير الذي أصبحت تعرفه العولمة لفشلها في دفع النمو وبصفة خاصة في إنهاء البطالة والتهميش الاجتماعي .

إلا إن النقد لم يقتصر على الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني ومظاهراتها في الشوارع فقد عرفت كذلك قاعات الاجتماعات والنقاشات بين البلدان أعضاء هذه المجموعة تزايد الاختلافات بينها.وقد عرفت مسائل وقضايا أساسية في موضوع العولمة كمسالة المناخ والتجارة الدولية تجاذبات وحتى اختلافات كبرى وأساسية بين البلدان الأعضاء.لقد كانت هذه المسائل في جوهر النقاشات في القمم العالمية وتمكنت البلدان من صياغة توافقات مهمة حول هذه القضايا كان من أهم نتائجها إطلاق المفاوضات التجارية أو ما يسمى بدورة الدوحة سنة 2001 والاتفاق الحاصل في باريس سنة 2015 لوضع حد لارتفاع الحرارة ومحاربة الانخرام المناخي إلا أن اجتماع قمة العشرين شهد انهيار هذا التوافق وعودة الصراعات إلى مربع الصفر.فقد أكد الرئيس الأمريكي الجديد في إطار برنامجه الانتخابي «أمريكا أولا» عدم التزامه باتفاق باريس حول المناخ وكذلك تراجعه عن كل اتفاقات التجارة الحرة التي أمضتها بلاده.

هذه الصراعات والتجاذبات والخلافات في داخل الاجتماع كما في خارجه أشارت إلى نهاية الحقبة التوافقية حول العولمة والعودة إلى المناخ المضطرب والمنفعل الذي عرفته العولمة في نهاية القرن وبداية القرن الواحد والعشرين اثر الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة الدولية بمدينة سياتل في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1999.وقد كان مشروع العولمة في تلك الأيام محل انتقادات كبيرة من جانبين مهمين ومؤثرين في العلاقات الدولية .الجانب الأول هو منظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية والتي شكلت قطبا أساسيا في نقد ورفض العولمة والتي اعتبرتها تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشركات الاحتكارية الكبرى على حسابه الشعوب. كما اعتبرت هذه الحركات أن مشروع العولمة هو مشروع ديمقراطي باعتباره يفرض مؤسسات كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي على إرادة الشعوب والمواطنين.

إلا أن حركة رفض ونقد العولمة لم تقتصر على منظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية بل شملت كذلك البلدان الصاعدة وفي طريق النمو والتي كانت تنتقد النظام العالمي وإدارة العولمة والتي كانت تقتصر على البلدان الرأسمالية التقليدية ولا تفسح مجالا للبلدان الصاعدة للمساهمة في هذا النظام.وقد طالبت هذه البلدان منذ بداية السبعينات بضرورة القيام بإصلاحات جذرية في النظام الدولي لإعطاء مجال اكبر لمسائل النمو ومصالح واهتمامات البلدان الخارجة لتوها من الاستعمار.

إذن شهدت العولمة الكثير من النقد والرفض منذ بروزها في بداية التسعينات كمشروع بديل لازمة الدولة الوطنية .إلا أن هذا النقد والرفض خفتا تدريجيا مع السنوات ليحل محلها قبول كبير وتوافق حول العولمة واجتماع على ضرورة اخذ بعين الاعتبار مصالح واهتمامات البلدان الصاعدة ليكون هذا المشروع أكثر تعبيرا عن تنوع العالم وتعدديته.

إلا أن اجتماع مجموعة العشرين في هامبورغ والنقد والرفض الذي تميز به في الداخل كما في الخارج جاء ليشير إلى نهاية حقبة وإمكانية دخول العالم في مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد العولمة.وقد ظهر هذا الرفض جليا منذ أشهر وكانت السنة الفارطة 2016 في رأيي سنة محورية في تغيير هذا المناخ العام وفي انهيار التوافق حول العولمة اثر تصويت البريطانيين مع البريكست وانتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية فصمود القوى الشعبوية الرافضة للديمقراطية الليبرالية وللعولمة هو في رأيي إيذان بفتح مرحلة جديدة في تاريخ العالم وإنذار بنهاية العولمة.

والسؤال الذي وجب أن نطرحه يهم أسباب فشل العولمة ومن يتحمل مسؤوليته ؟ وفي رأيي فان أسباب فشل وأزمة العولمة تكمن في ثلاث مسائل أساسية – المسالة الأولى تخص النظام الاقتصادي الجديد الذي أتت به العولمة والذي يجعل من القطاع البنكي والمالي (modèle Financier) المحرك الأساسي للاقتصاد. وقد أثبتت الأزمة المالية العالمية للسنوات 2008 و2009 هشاشة هذا النظام الاقتصادي وعدم قدرته على قيادة نمو الاقتصاد العالمي .

المسالة الثانية تهم الجانب الاجتماعي وقد تميزت العولمة بنمو وتطور كبير للفوارق الاجتماعية في اغلب البلدان – كما كانت العولمة وراء نمو كبير للبطالة والتهميش الاجتماعي.وقد أصبحت المسالة الاجتماعية الشغل الشاغل للمنظمات الدولية والدول من أجل خلق عقد اجتماعي جديد يضمن الاندماج الاجتماعي والمساواة.

المسالة الثالثة تهم الوضع المناخي . فقد نتج عن التطور الكبير للإنتاجية تدهور كبير للوضع المناخي وارتفاع لدرجات الحرارة مما ينذر بأزمة مناخية كبيرة في السنوات القادمة بدأنا نلاحظ بعض سماتها الأولى في التغييرات المناخية التي يعرفها العالم.

إذن جاء اجتماع قمة العشرين الأخير ليؤكد أن العولمة لم تعد محل توافق وإجماع.وقد صاحب النقد الموجه للعولمة صعود قوى اليمين والقوى الشعبوية والتي بدأت تلوح بضرورة الرجوع إلى مشروع الدولة الوطنية المتأزم وانخراطها في الدفاع عن مصالحها الوطنية على حساب الآخر .إذن هذه الأجوبة تنذر بتنامي الحروب التجارية والاقتصادية والصراعات بين الدول مما قد يدفع العالم إلى مزيد من الصراعات والوضع العالمي إلى مزيد من التقلبات وعدم الاستقرار.

أن عالم ما بعد العولمة الذي فتحته قمة مجموعة العشرين في هامبورغ ينذر بفتح مرحلة حرجة في تاريخ العالم ستتميز بعدم الاستقرار وتطور الصراعات إنها بداية مرحلة دقيقة يذكرنا التاريخ القريب للإنسانية أنها محفوفة بالمخاطر كالتي سبقت الحرب العالمية الثانية .
إلا أن هذا التطور وهذا الاتجاه ليس هو قدر الإنسانية الوحيد فبمقدورنا فتح طريق آخر للإنسانية يعتمد على التعاون والتضامن بين الشعوب والاندماج الاجتماعي وحماية المناخ – وهذا الطريق يتطلب تعبئة كل القوى الديمقراطية من اجل فتح مجال أرحب للإنسانية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115