الفساد السياسي: سليم الرياحي وحزبه مثالا

عبد اللطيف الهرماسي
جامعي وعضو بالحزب الجمهوري

أصبح سليم الرياحي حديث الجميع هذه الأيام، وإن لم تكن المرة الأولى التي يثير فيها الاهتمام الواسع لما يجسمه من الظواهر المستجدة بعد الثورة وحالة مخصوصة من النجومية المصحوبة بالإثارة والمحاطة بالصخب الإعلامي. وخلال الأيام الماضية طغت مسألة تجميد أمواله وممتلكاته لشبهة فساد، وليس لي ما أقوله في هذا الشأن الذي هو من أنظار القضاء. وهناك أيضا مشاكله مع جمعيته «الإفريقي» ومنافسيه على زعامتها بالإضافة إلى الجمعيات الأخرى المزاحمة، وهذه ليست من صلب اهتماماتي. يبقى جانب مهم من شخصيته المركبة وتصرفاته العمومية أريد أن أتحدث بشأنه ويتصل بالدور السياسي الذي لعبه منذ 2011.

لقد تابعت ظهور ومسيرة سليم الرياحي في حقل السياسة، وككل تونسي مشفق على وطنه وأحد أفراد جيل ضحى بالغالي والنفيس بما في ذلك الحرية من أجل تحقيق الكرامة بكل أبعادها، كنت أستغرب،بل لا أفهم كيف يمكن لأمثاله الاستفادة القصوى من مسار انتقال ديمقراطي لم يحركوا قيد أنملة من أجل وقوعه. كل علاقته بالثورة أن الرياحي دخل بقوة وغطرسة من بوابات الحرية التي فتحتها لينصب بارونا من بارونات السياسة الفاسدة. هو مثال حي للكوارث التي آلت إليها انتفاضة ضد التهميش والبطالة والفساد والاستبداد والابتزاز، ولكنها، بسبب غياب حزب قائد قادر على توجيه مسارها، فتحت على كل المزالق والمغامرات. ومنها أن يفد مثله ويعمل على تأسيس حزب لا ماضي له، وربما تصوره كنوع من «الشركة»، معولا على كل حال أن يقوده إلى لعب دور رئيسي في الحياة السياسية.

لم يكن الرياحي الوحيد من أصحاب المليارات الذين وجدوا «الشجاعة» لممارسة السياسة بعد أن ذهب بن علي لحاله، ومن كوّنوا أحزابا مصغرة لا يتجاوز عدد أعضائها أفراد عائلاتهم وأعوان مكاتبهم، فقد فعل ذلك أيضا عجرود ونصرة والجلاصي وبوعبدلي وغيره، والذين ساهموا، بالمناسبة في مسرحية تسمية حكومة المهدي جمعة باتفاق مع حركة النهضة والعباسي وبوشماوي. لكن الطموح السياسي لسليم الرياحي كان أوسع بكثير من طموح أصحاب الأحزاب العائلية الميكروسكوبية. ولذلك اعتمد إستراتيجية مزدوجة لاقتناء أدوات النجاح السياسي: فمن ناحية جعل تمويله للنادي الإفريقي صفقة يريدها أن توفر له مصعدا سياسيا يأتيه بعشرات بل مئات الآلاف من المناصرين، ومن ناحية ثانية عمد إلى شراء إطارات عليا وكفاءات وتحويلها إلى نواة قيادية لحزبه: الاتحاد الوطني الحر.

بخصوص هذا الجانب الثاني أشهد بأني سعيت جهدي لتعطيل مشروعه الذي رفضت فيه ممارسة مدمرة للحياة السياسية التي كنا نريد إصلاحها وتطهيرها مما لحق بها في عهد بن علي. وصورة ذلك أن الرياحي كان يبحث عن عنصر ذي قدرة على التواصل والإبلاغ وله خبرة وعلاقات اجتماعية وسياسية فابتدأ بصديق لي كنت أشرفت على بحوثه في علم الاجتماع قبل أن يصبح زميلا. جربه لبضع أسابيع ووجد فيه ضالته واقترح عليه تولي عملية التنظيم مقابل أجر شهري بستة آلاف دينار دون اعتبار التسهيلات الوظيفية. وبفضل علاقات الثقة والمودة التي تربطني بهذا الصديق استشارني فنصحته بالامتناع عن ذلك فاتصل بالرياحي بالهاتف أمامي ليعتذر عن قبول العرض المغري. عند ذلك حوّل الرياحي نظره إلى زميل آخر جامعي في نفس اختصاصنا، تتوفر فيه المواصفات وكان يشغل آنذاك مسؤولية عليا بوزارة الشباب، ووعده بأجرة تصل إلى تسعة آلاف دينار، حسب ما بلغني، أي أكثر من أجرة رئيس الحكومة... بلغني الأمر فأعدت استخدام ما أملك من رأسمال معنوي وتأثير أخلاقي للحيلولة دون ذلك، وهو ما تم فعلا، ومع التحفظ على التفاصيل، فقد اعتذر الزميل المذكور عن قبول المهمة الحزبية المأجورة تلك.

مع الأسف كانت تلك حدودي، وهي لم تمنع بالطبع سليم الرياحي من أن يجد عناصر مرتزقة أو انتفاعية التحقت به لتشكل عماد حزبه. ومن جملة هذه العناصر أحلام الكامرجي التي تكلمت باسمه وتصدرت البلاتوهات «السياسية» لفترة قبل أن يستغني عن خدماتها. ففي إحدى الحصص التلفزية، وعند تذكيرها بنضال الأحزاب التي وقفت في وجه بن علي عندما كان أمثالها يلازم الصمت، جاء جوابها مؤشرا على المفارقة الكبرى التي تمخضت عنها الثورة. لقد عقبت على الملاحظة بقولها «شكر الله سعيهم» يعني أنهم حاولوا فعل شيء ما ولكن الزمن لم يعد زمنهم. وصدقت المرأة بمعنى ما: فبعد زمن أحزاب النضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكفاح الطوعي والذي كلف الآلاف المؤلفة تضحيات جسيمة، جاء زمن أحزاب المال السياسي، وتحديدا المال الفاسد ، أو تحوّل أحزاب كانت فيما مضى صاحبة مبادئ وأخلاق، إلى أحزاب تطبّع مع الفساد وتتعاطى بل تتحالف مع رموزه.

وقد نجح الرياحي مؤقتا وأصبح ثالث قوة برلمانية بعد انتخابات 2014 التي قبلنا بها عن مضض رغم ما شابها من فساد كبير، وحسمت نتائجها حسابات ماكيافيلية وأخطاء فادحة. ثم كان ما كان من اتساع نطاق الفساد وانتشار عدواه، وبلغ الأمر حد شراء قيادة نداء تونس لنواب من كتلة الاتحاد الوطني الحر كما تشترى رؤوس البقر. ورغم ذلك سمح ذلك الدخيل لنفسه بالمطالبة باستبعاد الحزب الجمهوري وحزب المسار من حكومة الوحدة الوطنية عندما اتضح أن البلاد وصلت إلى المأزق وان لابد من سلوك طريق الإصلاح. كان يتصور أن تحفظات الحزب الجمهوري على ظروف تشكيل حكومة الوحدة الوطنية أو حكومة الشاهد كما يحلو للبعض أن يسميها، كافية لاستبعاده، ولكن الرياح جرت بما لم تشته سفينته، وأقصى نفسه بنفسه بسبب عجبه. ورغم الانتظارية والتردد التي طبعت عمل الحكومة في البداية فإن الاستحقاقات الضاغطة ومطالب القوى التقدمية بخوض المعركة ضد الفساد ما لبثت أن أتت ثمارها الأولى.

وإذا كان أمر الرياحي في معاملاته المالية شأنا للقضاء، فإن السؤال مطروح حول مستقبل حزب وكتلة أقيما بالأسلوب الذي ذكرنا وجسدا حالة من الفساد السياسي والانحلال يتأكد الخروج منها والتحرر من نتائجها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115