تدخّل السيد المكي في مجلس الشعب بكلمة تنبّه الصائم من غفوة قد تلامسه قائلا فيما معناه: «لن تجدوا نهضاويا فاسدا».. ولعلّ أوّل سؤال يسأله المرء: ما دخل هذه العبارة المسقطة في مجلس نواب الشعب؟ هل فتح باب محاسبتهم حتى يجهر بهذه الجملة؟ أم نحمل كلامه محمل المثل السائر « كاد المريب...» ؟ لماذا يسعى هؤلاء في كلّ محنة إلى إخراج أنفسهم ويسعون إلى تنبيهنا أنّهم متميّزون يرتقون إلى صفوف الملائكة؟ بل لماذا يهرعون إلى الاحتماء بجبّة الحركة كلّما استنشقوا رائحة خطإ أو محاسبة مثلهم مثل غيرهم من التونسيين؟ لماذا تقمّصوا جميعهم شخصية ابن القارح فظلّوا يسعون في البلاد والعباد وهم يحملون تحت إبطهم صكّ التوبة الذي يفتح لهم أبواب الجنّة الزائلة والأبدية؟ ثمّ لماذا يرفع السيد المكي هذا التحدي ؟ هل لإنّه متأكّد حقّا بأنّهم ، جميعهم، « أنقى من الفجر الضحوك.. وأرقّ من طبع النسيم» بينما نحن، وقد سمّانا شيخهم « بالصفر فاصل»، وهي عبارة تحصّلت على شهادة براءة ISO 9001 نحمل في جيناتنا جميع صفات الخبث والنذالة و... الفساد..
كان لهذا التدخّل وقع سحريّ في أذنيّ.. تحيّرت ذاكرتي القريبة ، وشرعت في استدراجي إلى تلك الأيام الأولى عندما انتصب هؤلاء حاكمين علينا بعد أن لبسوا لباس التقية كعادتهم طبعا، فأوهمونا بأن الحكم مشترك بينهم وبين التكتّل والمؤتمر، والجميع يعلم أنّهم كانوا الخصم والحكم. ومنذ تلك اللحظات بدأنا وبدأت تونس تعيش أياما عصيبة.. وبما أنّك سيدي فتحت باب الحديث فيما مضى فلنفتح الباب على مصراعيه.. فسأحدّثك بكلام على الحساب حتى يقتنع الجميع بأنّ حال تونس لن يصلح إلاّ إذا فتحنا جميع الملفّات فيبرّأ البريء ويعاقب المذنب.. وأتحدّاك إن وجدت في كلامي مغالطات تاريخية.. فالتاريخ بدأ يرتسم الآن ، وفي ارتسامه لا يحاور سوى الواقع لا الانتماء الإيديولوجي.. أكتفي بتذكيرك بنقطتين اثنتين، وأترك للتونسيين تذكيركم بغيرها:
• النقطة الأولى ترجع إلى مطلبكم « الشرعي» ، وهو « العفو التشريعي العام» والذي ظلّ إلى يومنا هذا من المحرمات التي لا يجوز الحديث عنها أو التذكير بها.. لكنّي قررت هذه المرّة أن نقف عند هذه المسألة، ونتحدّث فيها، فليس بالخفيّ أنّ عامّة الشعب التونسي يقولها ويكرّرها بل تعتبر من أهمّ القضايا التي تحفر في قلوبنا: أسألك سيدي: من قرّر هذا المبدأ وأصدره قانونا؟ ألستم أنتم وقد صادقتم عليه بعد أن وظّفتم ما حلا لكم من الدستور القديم «الفصل 34 المنقح بالقانون الدستوري عدد 65 لسنة 1997 المؤرخ في 27 أكتوبر 1997». ثمّ اهتديتم إلى تطعيمه بقانون في التعويضات وجبر الضرر.. ألم يتمّ ذلك في عهدكم المجيد ؟ وبإشراف لجنة استشارية تعود بالنظر إلى وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية للنظر في مطالب التعويض ذات الصبغة الاستعجالية ، وهي التي تحدد مبلغ التعويض . كم قيل لنا إنّ هذه التعويضات كانت منّة من قطر على إخوانها.. والغريب أن يأتي هذا الاعتراف من مسؤولين في الحكومة ليقدموا تقارير بالأرقام دقيقة. لكن أتساءل مثلما يتساءل غيري: فأذكر على سبيل المثال المعروف لا الحصر.. في أيّة خانة ندرج مبلغ 600 ألف دينار تقريبا التي تحصّل عليها المنصف بن سالم ؟ بعد أن وقّع على نفسه بالترقية إلى أستاذ تعليم عالي. لا تتذرّعوا بأنّ الرجل عانى من ظلم بن علي، فتمّت عرقلته، فنحن جامعيون ونعلم جيدا كيف تدرس ملفّات الترقيات الجامعية، والجميع يعلم أنّ الجامعة ظلّت حصنا حصينا في ذلك العهد، وخاصّة فيما يخصّ الترقيات الجامعية.. ولا ننسى الجدل الذي رافق الامتيازات التي منحها لنفسه ومن شهادات لأهل الاختصاص، مع التنبيه إلى أنّ قرارات «اللجنة الاستشارية للارتقاء إلى رتبة أستاذ تعليم عال» هي ذات صبغة استشارية لا أكثر ، وللوزير الأخذ بها أو رفضها. لذا فتعليلاتكم متهافتة. إنّ ما حدث بوزارة التعليم العالي مثال من جملة أمثلة كان لها دور في إفراغ خزانة الدولة . أضف إلى ذلك التعيينات العشوائية التي لحقت بالإدارة التونسية، الأمر الذي أدى إلى إتلاف ملايين الدينارات من عرق جبين شعب عانى الأمرين فأبقيتموه «على الحصحاص» .. قد ترفعون في وجهي تعليلكم التقليدي بالقول إنّه « تعويض على ايام الجمر التي عشتموها.. وهذا يستتبع صورة نقيضة لهذا الشعب، يعني أنّنا كنّا على الارائك متكئين . ما قمتم به يا سادتي كان المسمار الأول الذي ضرب في جسم تونس، وهو مسمار الفساد الإيديولوجي وحبّ الذات، فساد رفض الآخر فساد نشر الكراهية بين الناس، وحبّ التميّز، فساد الانغلاق على أنفسكم ورفض الاخر.. فسادكم كان حلالا في نظركم .. وحراما في نظرنا.. وعلى هذا الأساس فأنتم مثل غيركم تحاسبون وتثابون وموش على راسكم ريشة..
• المسألة الثانية التي استوقفتني هي العبارة التي تضمّنها بيان حركة النهضة ليوم 30 ماي الجاري ، وهي عبارة لا يمكن أن تمرّ بسلام. إذ نبّه البيان إلى «أنّ النهضويين مواطنون كبقية التونسيين». والسؤال هل أنتم متساوون معنا في المحاسبة؟ أم في اعتباركم أناسا عاديين؟ وعلى هذا الأساس فلا فرق بين نهضاويّ وتونسيّ إلاّ بالمواطنة. لكن، ألا تشيرون في صمت إلى ما يمكن أن يكون قد دار من حديث بين رؤساء الدول الكبرى ورئيس جمهوريتنا؟ من إعادة النظر ، مثلا، في اعتباركم تونسيين مسالمين، وعلى هذا الأساس يكون رئيس جمهوريتنا قد دافع عنكم مثلما يدافع عن غيركم من التونسيين.. وتبعا لذلك عليكم بالانضباط مثلما نحن منضبطون.
نصيحة مواطنية: نحن نبحث عن التعايش فكفّوا عن تمييز أنفسكم عنّا، ولتدركوا أنّ هذا الشعب على بساطته وفقره غنيّ بذاكرته وفكره.. قد يؤذى ولكن حذار، فلن تقدر أثرى قوّة في العالم على محو ما رسخ بذاكرتنا. ولن يقدر على تجاوز هذه العقبة من اعتبر نفسه منذ البداية «الآخر» الأصحّ والأسلم والمنقذ.
نحن في حاجة إلى أن نمرّ بهذه العقبات، وواعون بها، لذا رجاء « اعتبروا أنفسكم تونسيين» فحسب.