ما شد انتباهي هو قوله «اخترت تونس». يتبادر للذهن مباشرة أن آخرين اختاروا شيئا آخر أو تونس ولكن مع جرعة من الأنانية والحسابات الضيقة. اختار الجبالي الخلافة، والعريض الانتقام، واختار جمعة التسويف والصيد الإدارة. الشاهد وحده يغامر، يلعب الكل في الكل. اختار تونس «حبا وطواعية» كما يقول الفنان مارسال خليف.
يقال أن حب الوطن من الايمان. وهي مقولة ساذجة. يطرح في الحقيقة السؤال فلسفيا: هل تعدّ الوطنية من الفضائل، أم هي واجب أم فعل ارادي؟ من يعتبر الوطنية فضيلة يجعلها من مكارم الأخلاق التي يتحلى بها الفرد داخل المجتمع مثل السؤدد أو الصداقة.
ومن يراها واجبا لا يهتم بطابعها الأخلاقي بل يجعل من الذود عن الوطن والتضحية من أجل الجماعة فرض عين لا فرض كفاية. وهذا ما ورد في الدستور التونسي مثلا بجعل الدفاع عن الوطن واجبا مقدسا (الفصل التاسع). أما أن نختار حب الوطن فهو خيار آخر. أنا لا أعلم ما اذا كان الشاهد واع بالمضاعفات الفلسفية لمقولته ولكنه جعل من الولاء للوطن حرية شخصية وفعلا اراديا يخرج من دائرة الجماعة ليصبح التزاما شخصيا.
ويسمى هذا التصور التحرري أو الليبرالي «الوطنية المعتدلة» مقابل «الوطنية المتجذرة» (حب الوطن واجب) و»الوطنية الأخلاقية» (مكارم الأخلاق). وهذا يعني ان الفارق ليس بين الوطنيين والخونة ولكن بين من يعترف بالجميل ومن يتنكر لما قدمه له الوطن من خدمات من تربية الى أمن وفرص نجاح. ولكن هذا يعني في المقابل أن المرء غير مجبر على الولاء لا للدولة ولا للحكومة. وهي ما تسمى الحرية السلبية. ولا يدافع على الوطن اذا ظلم واعتدى على غيره. وهذا هو الفرق بين الوطنية والقومية.
من هذا المنظار، يمكن أن نقول أن الشاهد أوقف أناسا أخلاقهم رذيلة (لا فاضلة) مشكوك في وطنيتهم (أي واجب الذود عن الوطن) اختاروا عن طواعية وبكل حرية حياة الأشرار والمتحيلين والفاسدين عوض نمط حياة آخر (الوطنية خيار). ما يؤسف حقا هو تواطؤ كبار السياسة وجزء من النخب إما بالصمت المريب على أفعال هؤلاء أو التبجح بصحبتهم. أو التورط بالانتفاع ماديا من عطاياهم. كان هذا خيارهم الوضيع. وضعوا مصالحهم الشخصية أو الحزبية فوق الوطن.
وها هم الآن يستعدون للذود عنهم. وللأمانة ندد البعض اسميا بهؤلاء الفاسدين ونبهوا إلى أخطارهم. فلنشكرهم على ذلك. اختار الشاهد أخيرا الانحياز لتونس مديرا الظهر للحسابات الضيقة التي كبلت كل من سبقه ومنعته من اتخاذ القرارات الجريئة. وهو الآن في الواجهة وفي قلب الرحى والأخطار محدقة به من كل جانب. وعلينا أن ننحاز لتونس وأن نختار ما اختاره. وأن نصيح مجددا «ديقاج يا خمّاج».