مرّت الجامعة التونسيّة منذ نشأتها سنة 1958 بتحديّات فرضتها دولة الاستقلال التي كانت إلى حدود 14 جانفي 2011 ترزح تحت هيمنة الحزب الواحد مما عقّد مهمّة الجامعة لطبيعة التّقابل بين حاجتها إلى تكريس مبدإ الحريّات الأكاديمية وواقع ضغط النّظام السياسي المفتقر إلى الديمقراطية الفعليّة. لذلك وجدت الجامعة نفسها مجبرة منذ البداية على النّضال من أجل استقلاليّتها والحفاظ على حريتها وتحمّل مسؤولياتها تجاه الأكاديميا والمجتمع. وقد أثمرت تلك النّضالات التّنصيص على الحقوق الأكاديمية ضمن الحقوق والحريّات والاعتراف بخصوصيّة الحريّة الأكاديميّة في الفصل 33 من الدستور التأسيسي لسنة 2014. لقد تمّ دسترة الحريات الأكاديمية، لكنّ لا يزال على الجامعيين والمجتمع أن يناضلوا لتكريس ذلك المبدأ في قوانين أوّلا ولحمايته من التأويل الذي قد يعود بنا إلى مربّع الولاء للسّلطة ثانيا.
فالجامعة التونسيّة مرّت بعد الثّورة بنوع مغاير من الضّغوط وتقلبّات فرضتها الظّروف السياسيّة والاجتماعيّة التي تعيشها كلّ البلاد التونسيّة. ولئن كانت بعض هذه التحوّلات إيجابيّة نحو دعم حريّة الجامعة واستقلاليتها وأمنها فإنّ التّحديات التي واجهتها الجامعة استوجبت تضافر الجهود والتّصدي لكلّ محاولات اختراقها والعبث بمكاسبها المتعلّقة بقيم الحريّة الأكاديميّة والاستقلاليّة والمسؤوليّة. ووعيا بهذه الحاجة الملحّة والسّياق المخصوص الذي تمرّ به البلاد والجامعة نشأت الجمعيّة التونسيّة للقيم الجامعيّة وقد سعت منذ البداية للمشاركة الفاعلة في التّصدي للمخاطر التي يمكن أن تهدّد الجامعة التونسيّة ورأت الضرورة الملحّة لكتابة ميثاق جامعي يضبط القيم والمبادئ التي على كلّ الأطراف الالتزام بها وعدم الحياد عنها لتكون تلك الوثيقة بمثابة البوصلة التي تشير دائما إلى الاتّجاه الصائب مهما تقلّبت عواصف التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة ومهما اشتدت المفارقات الإيديولوجية وصراع المصالح داخل الجامعة وخارجها.
لقد اشتدت الحاجة إلى هذا الميثاق بعد الهجمات الشرسة التي تعرضت لها الجامعة سنة 2012، والتي اقتضت تجنّد الفاعلين من داخل الجامعة وخارجها للوقوف ضدّ تفشي هذا التيّار الظلامي الجارف والذي ازداد عنفا وتغذّى بالعمليّات الإرهابيّة وبأجواء مشحونة بالتكفير وتهديد الحريّات الأكاديمية والقيم الجامعيّة. وهكذا فقد وجدت الجمعيّة التونسيّة للقيم الجامعيّة نفسها منذ نشأتها في صلب معركة ضدّ العنف الرجعيّ والظلاميّ فقامت بتحرّكات ميدانية واحتشادات أمام المحكمة وأمام وزارة التعليم العالي ونظمت لقاءات في مقرّ الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وفي الكليّات.
وتتويجا لجهودها المدافعة عن المكاسب المتعلّقة بالحريّة والاستقلاليّة شرعت الجمعيّة التونسية للدّفاع عن القيم الجامعية في مشروع كتابة الميثاق الجامعي منذ 2015. تدعمها في ذلك مؤسسة روزا لكسمبورغ التي ساعدت الجمعية على عقد «أيام الميثاق الجامعي» بثلاثة مراكز كبرى (تونس-سوسة-صفاقس). وقد اجتمع في هذه الأيام الجامعية أساتذة وطلبة ونقابيون وممثّلون عن كلّ مكوّنات الحياة الجامعيّة، والهدف من ذلك أن تكون عملية كتابة الميثاق فعلا تشاركيّا بين مكوّنات الجامعة ومعبّرا عن جميع عناصرها لتكريس مبدأ الديمقراطية حتى لا يكون الميثاق صدى لطرف واحد وغير ممثّل لبقيّة الأطراف، فالغاية هي الوصول إلى عقد أخلاقي بين مكوّنات الحياة الجامعيّة يوضّح القيم المشتركة التي يجدر الالتزام بها والاستنارة بنورها في أوقات استقرار الجامعة والمجتمع وفي أوقات تقلّباتهما الممكنة. ولا يمكن أن تتحقّق نجاعة هذا العقد القيمي إذا لم يكن صادرا عن توافق بين جميع مكوّنات الجامعة من باحثين وأساتذة باحثين وطلبة وعملة وإداريين ومسؤولين ونقابيين.
لقد انتظمت أولى جلسات العمل يومي 26 و27 فيفري 2015 بكلية الآداب بمنوبة، ثم تمّ اللقاء الثاني بكلية الآداب بسوسة بالاشتراك مع المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس يومي 19 و21 نوفمبر 2015. وعقدت ندوة يومي 19 و20 فيفري 2016 بنزل المشتل بتونس العاصمة وشارك فيها عدة جامعيين من الجزائر وعمان ولبنان والأردن وفرنسا. وهكذا فقد تراكمت لدى الجمعية نصوص المداخلات التي نشرت بالتعاون مع مؤسسة روزا لكسمبورغ وصدرت في ماي 2017 في كتاب يحمل عنوان: «الحريّة الأكاديمية والميثاق الجامعي في البلاد التونسية وفي بلدان أخرى، مساهمات ضمن أيام الميثاق الجامعي (2015 - 2016)».
وشرعت الجمعيّة في التّحرير الفعليّ بتقسيم العمل على أربع ورشات: اهتمت الورشة الأولى بمسألة الحريّات الجامعيّة والورشة الثانيّة بالأخلاقيّات المهنيّة الجامعيّة والثالثة بالحوكمة والرّابعة بالمسؤوليّات. وتداول أعضاء كلّ ورشة الأفكار وسجّل المقرّرون أهمّ الخلاصات للحوار الدّائر داخل كلّ مجموعة. وشُفع اللّقاء بعرض المقرّرين نتائج المحاورات داخل مجموعاتهم. ثم دار نقاش جماعي حول تلك النتائج المعروضة المستخلصة من التحاور مع الممثّلين المتطوّعين.
و تمّ التركيز على بيان ضرورة الربط بين القيم التي يقوم عليها دستور البلاد التونسية والقيم ذات المرجعية الحقوقية الكونية، وترجمة مبدأ الحرية الأكاديمية وأخلاقيات السلوك والمسؤولية إلى قيم ينصّ عليها الميثاق بشكل واضح يحمي الحق في البحث والتدريس والنشر والتعبير والنقد والإبداع ويحمي الحريات الأكاديمية من هبّات رياح التقلّبات الإيديولوجيّة الممكنة في هذه المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها البلاد التونسية.
وتعتزم الجمعيّة التونسيّة للدّفاع عن القيم الجامعية الاحتفال بتوقيع الميثاق الجامعي يوم 25 ماي 2017 بحضور ممثّلين عن الشّريك روزا لكسمبورغ. والدّعوة مفتوحة للجامعييّن ومسيّري الجامعات والنّقابييّن والإداريين والطّلبة وللمجتمع المدني لمشاركتنا هذا الاحتفال.
فكلّ ما تأمله الجمعيّة التونسيّة للدّفاع عن القيم الجامعيّة هو تكريس فكرة الجامعة بمعناها اللّغوي الأوّل: تلك التي تجمعُ ولا تفرّق، تلك التي تحتضن الجميع باختلافاتهم وتدير مشاغلهم وآمالهم ونزاعاتهم بوسائل تحتكم إلى قيم ذات مرجعيّة حقوقيّة ودستوريّة، محليّة وكونيّة. فلعلّ هذا الميثاق يكون أملا جديدا لجامعة امتياز تكون قاطرة لبلاد يحلم أبناؤها بالتقدّم بين الأمم. فكونوا معنا يوم الخميس 25 ماي لنتشارك هذا الحلم.