ولئن يؤكد مثقفو الطبقات السائدة أن الوضع الذي تعرفه المجتمعات الرأسمالية هو وضع طبيعي ولا يمكن تجاوزه فإن مثقفي الطبقات المضطهدة يشيرون إلى أن هذه المجتمعات إلى زوال ويسعون إلى تعبئة هذه الفئات الاجتماعية لتغيير الواقع والخروج من هذه المجتمعات
وقد عرف هذا المفهوم تطورا ورواجا كبيرين في قراءة دور المثقف في المجتمعات الإنسانية. – كما عرف مفهوم المثقف العضوي تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة وابتعادا عن المفهوم الأصلي الذي وضعه المثقف والقائد السياسي الايطالي انطونيو قرامشي.فأصبح هذا المفهوم يشير إلى المثقف الذي يرتبط بالحركة الاجتماعية ويحاول الخروج من برجه العاجي للانخراط في جملة النضالات والتظاهرات الاجتماعية لينصهر في آمال وأحلام المجتمعات التي يعيش فيها ويختلف المثقف العضوي في هذه القولة عن المثقف التقليدي الذي يضع عصارة فكره وعمله في الجوانب العلمية ويبقى على مسافة كبيرة من الحركية الاجتماعية ومحايدا عن الصراعات والنضالات التي تعرفها المجتمعات
وبهذا المعنى فقد ترك لنا التاريخ المعاصر عددا كبيرا من المثقفين العضويين والذين لا فقط ساهموا في تطور الفكر والعلوم بل كذلك لعبوا دورا كبيرا في الحركات الاجتماعية والنضالات السياسية التي عرفتها بلدانهم بل وكذلك العالم – ومن بين هؤلاء المفكرين أذكر على سبيل الذكر لا الحصر المفكرين الفرنسيين Jean Paul Sartre وPierre Bourdieu وMichel Foucault والمفكــر البريطانـي Eric Hobsbawn وGeorge Orwell وBertrand Russel وغيرهم كثير
وقد اخترت في هذا المقال الحديث عن المثقف وعالم اللسانيات الأمريكي ناعوم تشومسكي Noam Chomsky بمناسبة صدور مؤلف ضخم منذ أيام يضم أهم كتاباته في الخمسين سنة أخيرة تحت عنوان « Comprendre le pouvoir» او فهم السلطة عن دار النشر الفرنسية Lux .ويعتبر ناعوم تشومسكي احد آخر عمالقة المثقفين العضويين بعد أن تراجع دور المثقفين واقتصرت اهتماماتهم على مجالات عملهم العلمية تحت تأثير أفكار ما بعد الحداثة التي تنفر وتنفي عن المثقفين الاهتمام بالشأن العام والانخراط في الحركة الاجتماعية.
وقد ولد ناعوم تشومسكي في 7 ديسمبر 1928 في فيلالفيا في الولايات المتحدة الأمريكية لأبوين مهاجرين من روسيا –وقد كان لأبويه تأثير كبير عليه على مستويين على الأقل –الأول هو فكري باعتبار أن أبواه كانا جامعيين فدعمّا عنده الاهتمامات الفكرية والفلسفية وقراره بالتوجه للتدريس والبحث الجامعي .
كما ورث عن أبويه نشاطهما السياسي والتزامهما النضالي فاختار طريق السياسة منذ صغر سنه.
سيلعب هذان الجانبان الفكري والسياسي دورا كبيرا في حياة ناعوم تشومسكي ليجعلا منه أحد عمالقة الفكر العالمي .فقد اختاره اكبر مثقفي العالم في استطلاع رأي سنة 2005 كأبرز شخصية ثقافية في العالم – كما صنف في المرتبة الثامنة لأكثر المراجع التي يتم الاستشهاد بها على المستوى العالمي .ممّا يؤكد تأثيره الفكري والسياسي من خلال دراساته ومحاضراته وكتبه التي بلغت المائة
الرحلة الفكرية لشومسكي انطلقت عند دخوله لجامعة بنسيلفينيا في عام 1945 حيث درس الفلسفة واللسانيات.وسيقدم تشومسكي أطروحة الدكتوراه في علم اللسانيات سنة 1955 ليلتحق إثرها بجامعة ماساتشوستس وبمعهد التقنية العريق(MIT) اين سيصبح مدرسا وحيث سيقوم ببحوثه الشهيرة في علم اللسانيات
وسيصدر تشومسكي كتابه الشهير في علم اللسانيات Structures syntaxiques سنة 1957 والذي سيكون وراء ثورة فكرية في هذا العلم من خلال تحديده للقواعد التي تحكم وتحدد إنتاج اللغة.وقد اعتبر العديد من الباحثين أن هذه المساهمة هي «ثورة شمسكية» كان لها تأثير كبير في عديد المجالات الأخرى كالفلسفة والرياضيات والبسيكولوجيا وعلوم الاتصال
وقد أعطت النتائج العلمية والعمل الفكري لتشومسكي هيبة واحتراما كبيرين على المستوى العالمي مكنتاه من لعب دور كبير وتأثير هام على المستوى السياسي وأهمية الكتاب الجديد «Comprendre le pouvoir» تكمن في كونه يعطي فكرة واضحة على مواقف وتحاليل تشومسكي على مدى الثلاثين سنة المنقضية
وقبل الخوض في بعض القضايا السياسية الخصوصية التي خاض فيها تشومسكي نضالات كبيرة أود الإشارة إلى قراءته للمجتمعات الحديثة كما تبرز في بعض نصوص هذا الكتاب والتي تشكل أساس التزامه السياسي وهي توق الناس إلى الحرية والعدالة إلا أن المبادئ تشهد انحسارا وتراجعا كبيرا في الأنظمة الرأسمالية وتعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي والاستعمار على المستوى العالمي
وهنا يكمن حسب تشوسكي دور المثقف العضوي والذي لا يقتصر على البحث والمعرفة او الردّ على هذا النظام على المستوى الفلسفي والفكري بل يجب أن ينخرط في النضال اليومي ضد هذه الانظمة وسياساتها ويرى دوره في جمع المعطيات والتحاليل التي تفضح هذه المجتمعات ووضعها على ذمة المواطنين حتى يتمكنوا من خوض نضالات من اجل تغيير الواقع وكانت حياة تشومسكي مليئة بالنضال السياسي والتحركات في عديد المجالات .سأقف في هذا المقال على ثلاثة محاور أساسية أشار لها في هذا الكتاب من خلال عديد المقالات – المحور الأول وهو تنديده المستمر ونقده الراديكالي للسياسات الخارجية الأمريكية واعتبارها سياسة امبريالية هدفها السيطرة على العالم وإخضاعه لهيمنتها . وقد انطلقت نضالاته ضدّ هذه السياسات منذ حرب الفيتنام وكتب مقالا شديد اللهجة في سنة 1967 في مجلة New york review of books الشهيرة حول دور المثقفين وضرورة أن يلعبوا دورا رياديا في التظاهر ضد هذه الحرب ومطالبة الجيش الأمريكي بالانسحاب والعودة الى بلاده.وقد دعم تشومسكي وبصفة علنية حركات الجنود الهاربين من الخدمة العسكرية والرافضين الذهاب إلى الفيتنام ممّا تسبب له في محاكمة من قبل السلط الأمريكية
وقد واصل تشومسكي نقده الراديكالي للسياسات الأمريكية في مقالاته وكتبه وأحاديثه الصحفية فندد مثلا بالدور الذي لعبته المخابرات الأمريكية في انقلاب Pinochet ضدّ الرئيس اليندي في الشيلي سنة 1973.كما وقف ضد الحرب على العراق واعتبرها جاءت لتطويع المنطقة وجعلها تحت الهيمنة الأمريكية
المحور الثاني الهام في نضالات تشومسكي والذي يبرز في هذا الكتاب هو نقده الصريح والعلني للدولة الإسرائيلية –وهذا النقد القادم من احد أهم المثقفين من أصل يهودي اعتبرته إسرائيل ضربة خنجر في الظهر وهو بالنسبة لهم بمستوى الخيانة إلا أن الموقف الإسرائيلي ومنع السلطات الإسرائيلية له من زيارة الضفة الغربية لم تزده إلا تشبثا بمواقفه .وقد أكد في إحدى تصريحاته الصحفية أن «أنصار إسرائيل هم في الحقيقة أنصار للانحطاط الأخلاقي ودمارها النهائي المحتمل».
المسالة الثالثة التي تهم العمل الكبير الذي قام به تشومسكي لتحليل وسائل الإعلام ودورها في الولايات المتحدة الأمريكية .وقد خصص عديد الدراسات لهذه المسالة مكنته من تطوير مصطلح هام أطلق عليه «صناعة الإذعان» وهي طريقة تسمح للسلطات الأمريكية بضبط سيطرتها بطرق غير عنيفة وسلمية على الرأي العام الأمريكي
هذه بعض الجوانب والاهتمامات عند ناعوم تشومسكي آخر عمالقة المثقفين العضويين في العالم كما ورد في كتابه الصادر منذ أيام .وقراءة هذا الكتاب أو على الأقل بعض فصوله هي في شدة الإمتاع وتمكننا من التعرف أكثر على عالم هذا المثقف.كما أن هذه المطالعة وهذا المسار الفكري وبالرغم في بعض الأحيان من الاختلاف أو حتى الرفض لبعض مواقفه فإنها تؤكد حاجتنا الماسة لهذا النوع من المثقفين والذين بقدر عطائهم على المستوى العلمي والفكري فإنهم ينخرطون في العملية الاجتماعية والنضال السياسي في بلدانهم هاجسهم الوحيد كما أشار ناعوم تشومسكي في نهاية كتابه «المحافظة على الأمل في تغيير مجتمعاتنا نحو الأفضل».