أولها إيديولوجية الشيخوخة. فالناس هنا يتنبهون ب»الشيخين» الوقورين» ويقرون فيهما الحكمة ويستمتعون حتى بخبثهم وغدرهم، نعم. وهما المانعان لبروز أي شخصيات جديدة داخل أحزابهما الى درجة أنهما مستعدان لتحطيم ما بنوه بعناء أي أحزابهما لو اشتما رائحة تمرد أو عصيان أو تألق من أي ماكرون كان. وذهب الطيش بالبعض الى اقتراح ترشيح الغنوشي للرئاسة. والتعاسة بالبعض الآخر الى اقتراح الباجي القائد السبسي الى ولاية ثانية في 2019 من القرن الحالي نكالة في أي ماكرون وهو يتلذذ بذلك، ولا يرفع اللبس مغامرا بالمستقبل أي بأي ماكرون لأنه لا ماكرون من صلبه. وتسربت عدوى إيديولوجية الشيخوخة لكي يلقب قصّر سلفيون لا يتجاوز عمرهم ماكرون ب»شيوخ». ولا تزال تحل الخلافات بالرجوع لشيخ العائلة والقبيلة والبلد والبلاد.
ثانيها سردية النضال. هذا بلد لا يفتح فيه أحد فاه الا وطولب بالإلحاح أن يقدم سيرته النضالية كما يقدم الديبلوماسي أوراق اعتماده. أين كنت زمن بن علي؟ وماذا فعلت؟ وهل دخلت السجن وعذّبت. وبكت أمك. ومن كان مفضوحا اعتذر ومن كان متواطئا فضح فأصبحت السياسة تقاس بعدد اللكمات وحجم الاهانات زمن بورقيبة وبن علي. وحتى الباجي أجبر أن يوضح أنه قطع مع بن علي في 1991. ومن دخل السياسة بعد 14 جانفي عدّ من الأحداث والمراهقين والهواة أمثال الوزير الأول ومن لف لفه. أين ماكرون يتجرأ ليسرد للتونسيين قصة جديدة تنظر إلى الأمام لا تشد الى الوراء تنقل مصدر الشرعية من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر قصة لم تكتب بعد أبطالها شباب لا شيوخ أكفاء ومن غير محترفي السياسة يقولون ما يفعلون. وينسحبون في أول فشل ذريع.
ثالثا أنثروبولوجية النخب. إن معظم النخب السياسية بما فيها الأحزاب والبرلمان والحكومة هي منحدرة من طبقات متوسطة متعلمة نموذجها المثالي «الأستاذ الجامعي» وأقل درجة الثانوي أو الموظف السامي. جلها منخرطة في أحزاب أو موالية خلسة وسرا لأحزاب فاعلة. والكل يستجدي النهضة والنداء شق قائد السبسي (مؤقتا). لا أحد فيها صالح لكي يكون ماكرون. هؤلاء يكرهون ماكرون لأنه شاب وسيم خريج مدرسة عليا، ثري ولأنه مساند من البنوك الكبرى الفرنسية و الرأس المال المالي الأوروبي وهو صنيعة مخابر التفكير (ثين تانك) لصنع الزعماء يديرها أناس لهم نفوذ (مثل آلان منك وجاك أتالي وماتيو قالي..). السياسي في المخيال التونسي متعلم فقط ناضل ويناضل ويصب عرقا نضالا يجوب البلاد طولا وعرضا (على النمط البورقيبي) ويحبها كما لم يحبها أحد موظف محامي خبير لا ثري وليست له الثقة المطلقة في رأس المال ولا يتباهى بمعرفة بوشماوي وأناس المليارات. يسكن في التلفاز وغير مدين لأحد. لا يكره التجمعيين ولا يحاكمهم، يتعامل مع النهضة مكرها لا بطل. لا يعادي أحدا ولا يرضخ لأحد. هو نازل من مريخ السياسة. هو ليس ماكرون. هو السيد الآن.