مبالغا ولكن أنا مقرّ العزم على تجنّب القنوات التونسيّة جميعا وعلى حماية نفسي من طلعاتها وممّا فيها من دهن ومن دهّانة.
نعم، أرى في الكثير من برامج هذه القنوات دهنا بليغا وأرى المنشّطين والمتدخّلين جلّهم دهّانة. هم دوما يدهنون، يطلون. صنعة الدهّان هي التغطيّة والتبييض. مهمّتهم الفسخ والتلميع... لكلّ دهّان أدواته ومنهجه ولكن تبقى غاية كلّ الدهّانة واحدة: تغطيّة ما انكشف وتزيين ما فسد وتببيض ما اسودّ...
يوم أمس، في برنامج، استمعت الى حوار صاخب. حواراتنا دوما صاخبة. كذلك تحبّها الجماهير. في البرنامج، انتصب في الركح أربعة أو خمسة أنفار وفوقهم منشّط. بعض الحاضرين أعرفه وقد غدا دهّانا مشهورا وبعضهم لا أعرفه وأظنّهم في التمرين. في ذاك البرنامج، رأيت الحاضرين جميعا يدهنون دون حشمة ولا تحفّظ. في تدافع، يزايدون، يناورون...
حول أحداث تطاوين، رأيتهم يدهنون. كلّ حسب ما كسب من حذق ومن دهن، أراه يطلي. هذا يقول: « احتجاجات تطاوين هي اجتماعيّة، شعبيّة، سلميّة» والآخر يضيف «الاحتجاج مكسب من مكاسب الثورة ولون من ألوان نضال شعبنا المهمّش في تطاوين» والثالث يؤكّد «هي احتجاجات سلميّة ومن خلالها أظهر شعبنا نضجه ومسؤوليّته». أمّا الرابع وكان عليه أن يتّبع السرب ويمشي في نفس المسرب فتراه يضيف على ما قاله الآخرون من قول وبصوت فيه اتّزان وشبه تفكير فتراه يؤكّد: «أنا فرح بما حصل في تطاوين. أنا حقّا سعيد، مسرور بما حصل في عاصمة الجنوب. في تطاوين، حصلت يا سادتي مظاهرات شرعيّة، قانونيّة. هو احتجاج حضاري لم تهدر فيه قطرة دم ولم تزهق فيه روح... أفلا تحسب هذه السلميّة العاليّة لأهلنا في تطاوين؟ أفليس في هذا مفخرة لنا ولشعبنا العظيم في تطاوين؟» وترى القوم كذلك في مزايدات لا تنتهي وفي تكرار بليد. وينتهي اللقاء ويعود كل الى بيته فرحا مسرورا وكلّهم يدهنون، يشكرون صنيع هذا الشعب العظيم، صاحب الحضارة العريقة وثلاثة آلاف سنة من التاريخ الى غير ذلك من الدهن الرخيص...
الكلّ يعلم أنّ في تطاوين حصل عفس للقانون حصلت فوضى مضرّة وتعطيل للإنتاج وقطع للطريق. الكلّ على بيّنة بما جرى من إفساد للحياة وخرق للقانون... كان الأولى، حماية لهذا البلد، أن نساند القانون ونقف دون مواراة في وجه المعتدين وندعو الى محاكمة فوريّة لقطّاع الطرق ولغيرهم ممّن اعتصم وعربد وعطّل الانتاج والمنتجين... ما حصل في تطاوين من مظاهرات غير مرخّص فيها ومن تجمّع في الشوارع ومن إخلال بالأمن العام وبالحياة المشتركة هو خرق للقانون. هذا ما يجب أن نقول صراحة وهذا ما يجب أن نقوله للناس المتظاهرين في تطاوين وهذا ما لا يراه الدهّانة وغيرهم من الاعلاميين...
يجب اعادة الاعتبار الى القانون والتراتيب. يجب أن ننتهي من سياسة التوريّة والتبرير ونجازي الناس على ما فعلوا وننتهي من مقولات العفو عند المقدرة والمسامح كريم وغير ذلك من الكلام الفارغ وغير المسؤول؟
الكلّ في ما مضى عاش التهميش والفقر أو عرف الظلم أو تعرّض الى التسلّط... اليوم يوم آخر. اليوم، لنحيا، يجب أن نحترم القانون، يجب أن ندرك أنّ كلّ عفس على القانون وان كان طفيفا وان اتاه معوز أو مهمّش أو كلّ الجماهير يجب أن يردع حالا وحسب القانون. يجب أن نقتنع أنّ كلّ خرق للقانون هو خرق لتونس، هو عفس على الناس أجمعين... إنّ في تطبيق القانون على الشعب كلّه، على الغنيّ والمهمّش، هو تأسيس للعمران وبعث للنموّ. أمّا سوى ذلك من السبل فهو تأسيس للغاب وتخريب للعيش المشترك وافساد للحياة ولليوم الآخر.