حديث الأنا: جدّي والحجّ إلى فرنسا

كان جدّي الحاج يوسف رحمه الله يسكن قرية منزل كامل بالساحل التونسيّ. قريتي ريفيّة. جدّي ريفيّ دما ومنبتا لكنّه يختلف مع أهل الريف، فكرا وقيما. ما كان يفعل ما يفعلون ولا هو يؤمن بما يؤمنون . هو مسلم أبا عن جدّ وحجّ مكّة

وزار قبر الرسول مرّات عدّة. رغم حجّه المتكرّر، ما كان جدّي بالمتزمّت ولا أدري ان كان يصلّي ويصوم. نسيت. في ذاك الزمن، ما كان الصوم والصلاة مسائل مهمّة. ما كان الدين محلّ أخذ ونظر. الكلّ يومها، في القرية، مسلم، يسعى، يكدّ حتّى يأكل ويضمن عيشا... جدّي رجل مختلف. هو فكر حرّ. يقرأ المجلّات والكتب. يتابع الأخبار وما جدّ من حدث. كثير السؤال. ينظر. يقرّر. يتّخذ وحده ما يرى من سبل.

كان جدّي من أثرياء القرية. كسب أراضي شاسعة في بقع مختلفة وله أعداد كبيرة من أعواد الزيتون. لا أدري ان كان اشتراها أو جاءته ارثا. كان حريصا على ما كسب. يتابع رزقه وخدمه. منتبه. لا تنام له عين ولا تغلق له أذن. في الشتاء وكلّما نزل الغيث، ، يمشي الى أراضيه، مترجّلا، تحت المطر، يتفقّد، ينظر في السدود. يرفعها ان هزّها سيل...

رغم ما ملك من رزق، كان جديّ مقتصدا، لا ينفتح له كفّ. هو بخيل. ذاع في القرية صيته. تحدّث الناس في الرحبة عن طلعاته وما كان يأتي من فعل مقتصد. لا ينفق جدّي الا عند الضرورة، الا في ما يلزم. يكره اتلاف المال في ما لا يصلح. يكره الانفاق كلّه ويحبّ الأرض وشجر الزيتون والزيت يجمعه، يخبئه. كان دوما يدّخر. عاش حياة شظفا. يأكل ما حضر ويلبس ما ستر. في بيت جدّي، في ما أذكر، لا بذخ ولا زينة. في الصيف، كلّما طلع القمر يمشي مسرعا يطفئ الأضواء ونقضي الليل تحت نور القمر. دوما ينظر في عدّاد الكهرباء، يتبيّن. حين تأتي فاتورة الضوء، يحصل في البيت جدل وتتّخذ القرارات ويعمّ البيت الظلام...

كانت لجدّي دار كبيرة قرب الرحبة. أحبّ الذهاب الى دار جدّي لألهو مع صبية وصبايا خالاتي وقد جاؤوا من كلّ بقعة. في مدخل الدار هناك السقيفة وكانت شاسعة، كبيرة. فيها نلتقي ونلعب ونتدافع ونحكي خرّافات رأس الغول. فيها، نشعل نارا. نطهي طعاما. نأكله. في وسط السقيفة على اليمين هناك مخزن كبير، لا نوافذ فيه، دوما مظلم. بابه كبير فيه أقفال عدّة. في المخزن، حفر جدّي ماجلا كبيرا يصبّ فيه زيته. في المخزن ينام جدّي وجدّتي. قبالة الماجل، في الوسط، وضع فراشه وكان فراشه من لوح متين، فيه أزيز وتموّج. في احدى زوايا المخزن، بعض الأواني وأشياء أخرى لا أعلم لما هي تصلح. في الزاويّة المقابلة، مرفع حديديّ وعدّاد الكهرباء. فوق المرفع يضع جدّي جرائده وكتبه والمصحف. كان جدّي مولعا بالجرائد. دوما يورّقها، يقرأ ما جاء فيها من أسطر. جريدة جدّي هي «الحاضرة» وأحيانا يشتري مجلّة «العربي». قرب الفراش، من جهة الرأس، يمينا، تلقى صندوقا كبيرا من لوح، رسم على جانبيه ومن فوق، بألوان مختلفة، سمك ونخيل وخطوط كموج البحر تمشي من الأعلى الى الأسفل. لا أتبيّن جليّا ما كان في الصندوق من رسم وقد امّحى الرسم بفعل الأيّام وبمرور الزمن. في الصندوق تخفي جدّتي ما كان من ثياب بهيّة يلبسها جدّي في الأعياد وفي المناسبات الأخرى. لا يشتري جدّي من الثياب الا قليلا وصندوقه دوما معبّأ. هي هدايا من فرنسا، من عمّال القرية. في تلك السنين، هاجر القرية الى فرنسا جلّ شبابها ورجالها بحثا عن القوت. لم يبق في القرية غير الصبية والنسوة ومن حطّه الزمن. لا يفتح صندوق الثياب أبدا. هو دوما مقفل بمفتاح وحيد، تخفيه جدّتي في «شونها»، تحت ثديها الأيسر. تخاف جدّتي من الأيدي وفي الدار صغار وكبار. من يدري ما قد يحصل وهذا شيطان يوسوس وهذه أنفس تحوم حوله... في وسط الدار، يمينا، انتصب المسقف وفوقه كوم من الحطب. على طرف المسقف، نصبت طابونة ضخمة حولها نلتقي، نترقّب. أمام السقيفة على اليسار وضعت الزحّافة. هي زحّافة قديمة لفّها سواد داكن وفيها رماد مستقرّ...
كان جدّي بهيّ الطلعة. له حضور وتميّز. وجهه أسمر فيه تجاعيد كثيرة كأنّه وليّ صالح أو هو ساحر. كان طويل القامة ونظره ثاقب. كان نحيف الجسم، يمشي في الأرض كشجرة سرو، مستقيما، ثابتا. جدّي رجل جدّيّ. له فكر خصوصيّ واطلاع واسع. هو يقرأ الجرائد. يتابع الأخبار صباحا، عشيّة من مذياع صغير لفّه بحبل وكساه بقماش ملوّن. كلّ صباح، باكرا، في فراشه، يدني اليه مذياعه، يستمع الى الأخبار ولا ينتهي. يتوقّف مرّة عند اذاعة الب.ب.س ومرّات عند اذاعه «تيرانا». كان مندهشا بما تقوله تيرانا من قول غليظ، بما تأتيه من تهديد وتنديد...

في جيب جدّي دوما خارطة العالم. كلّما لاقيته في بيته، ينهض من فراشه. يزيح مذياعه. يشعل الضوء ويخرج من جيبه خارطة العالم. يمسكها بلطف. يفتحها على ركبتيه، أمامه، ويقول لي «أنظر هنا، تحت اصبعي. هنا تقع ألبانيا. نقطة صغيرة، رأس ذبابة، تحيط بها دول متعدّدة. رغم صغر حجمها، اذاعة تيرانا دوما تعارض، تهاجم، تسبّ، لا تحسب لأحد حسابا... أتعلم أن رئيس ألبانيا هو شيوعيّ مسلم؟». ثم يدفع بإبهامه فوق الخارطة يمنة ويسرة، يسمّي البلدان والقارات والعواصم ثمّ يسألني أين تقع البرازيل وما اسم عاصمة الأرجنتين وفنزويلا وغيرهما من الأصقاع الأخرى. ان أجبت استحسن وان أخطأت علّمني...

في سنة 1969، انتقلت الى تونس العاصمة لمواصلة دراستي في الجامعة. تركت جدّي وأمّي وبقيّة أصحابي وعائلتي. أحيانا أعود الى القرية. أزور دار جدّي. أقضي هناك الصباح والعشيّة. ألاطف جدّتي وآكل معها ما أعدّت من خبز ومن غداء. يحدّثني جدّي عن أهمّيّة الدراسة وأحدّثه عن حياتي في الجامعة. ثم يمدّ خريطته من جيبه. يسألني عن البلدان والعواصم وكنت حفظت العديد من أسماء العواصم وتبيّنت موقع البلدان والقارات وما حولها من جبال ومحيطات. أتغدّى وايّاه ما حضر. يذهب لينام في المخزن.

في صيف سنة، في بداية السبعينات، التقيت وجدّي صدفة في فرنسا. كان لقاء سعيدا. هي مناسبة طريفة. كنت في بيت خالتي في «شالون» لمّا جاء جدّي لقضاء أيّام مع ابنته وزوجها المهاجر. أمّا أنا فكنت هناك أبحث عن شغل. في كلّ صيف، أذهب الى فرنسا أبحث عن شغل. في كلّ صيف، أشتغل في فرنسا وأكسب مالا كثيرا وأشتري وأدّخر. أيّامها، كان العالم في أوج نموّه. كان العالم مفتوح الأبواب، يدخله الناس متى شاؤوا دون شرط أو تأشيرة. أيّامها كان العالم جميلا وكان الناس مهما اختلفوا في تآزر، وكلّهم عزم وتفاؤل. في أوائل كل صيف، طالبا، آخذ حقيبتي، أمشي الى أرض الله. أحطّ رحالي حيث شئت. أحيا. أتجوّل. أشتغل. أكسب.
سألت جدّي عن سبب سفره وهو الذي لا يحبّ السفر ولم يغادر القرية غير مرّتين أو ثلاث للحجّ. قال «كما تعلم وربّما لا تعلم، كان لي أخ مات منذ عشرات السنين، في احدى حروب فرنسا. دخل عسكر فرنسا ومع العسكر حارب في بقاع عدّة. في احدى الحروب، توفّي أخي. لا أدري بالضبط أين لقي حتفه. بعد سعي ومراسلات، علمت أنه دفن في مقبرة المسلمين بمرسيليا. ذاك ما قالته السفارة. طلبت من السفارة أن أزور قبر أخي وأقرأ على روحه فاتحة الكتاب وأطلب له رحمة ومغفرة. استجابت السلطات الفرنسيّة لطلبي وتحمّلت راضيّة نفقات الاقامة والسفر.. في مطار مرسيليا وعند باب الطائرة، لقيت سيّارة تاكسي تنتظرني. حملني السائق مباشرة الى المقبرة وأراني قبر أخي. لمّا اتممت قراءة الفاتحة وآيات أخرى وترحّمت على الميّت وعلى أبويّ وعلى المسلمين أجمعين، أخذني السائق الى نزل قريب حيث مكثت ثلاثة أيّام كاملة. في كلّ صباح، يأتي صاحب التاكسي ويحملني في الموعد الى المقبرة ويعيدني الى النزل»...

لا يحسن جدّي الفرنسيّة. يجهلها تماما. قلت له «في انتظار الشغل، ان شئت، كلّ عشيّة، نذهب معا نتجوّل في المدينة، نزور أسواقها ومغازاتها، نرتاح في حدائقها وأكون لك ترجمانا.» في الغد، عشيّة، لبس هو جبّة بيضاء ناصعة وارتديت أنا لباسا عاديّا. كنّا نمشي في الطريق سويّا. نتبادل الحديث والرأي عمّا في المدينة من مظاهر زينة ومن نظام في البناء ومن نظافة في الشوارع ومن أجنّة. مشينا كذلك زمنا لمّا سمعته يقول بصوت منخفض، في بعض حسرة «لو كنت أعلم»...

كان الناس من حولنا ينظرون فينا وفي جدّي خاصّة. كان جدّي بهيّ الطلعة. له حضور وكيمياء. نظرت اليه أتثبّت. في وجهه الأسمر تجاعيد غارقة تمسح جبينه فوجنتيه فذقنه والرقبة. في عينيه نظر ثاقب، ملهم. في ما أرى، جدّي رجل أنيق، بهيّ، خارج من مجلّة موضة، صورته في غلافها الأول. أعدت النظر اليه لأتبيّن ما كان له من حسن. أنظر في المارّة من ذكر وأنثى. كان المارّة يسرقون النظر، يلتفتون خفية اليه، يتابعون خطاه، معجبين بطوله، بتجاعيده، بجبّته. في وجه جدّي بهاء وتناسق. في قامته طول. في جبّته بياض ناصع يعطيه وقارا وهيبة... غير عابئ بما يجري، بما له في أثر، كان جدّي يمشي مستقيما، لا يلتفت، ينظر في الشجر، في ما كان من ترتيب ومن بنية. من حين لأخر يقول، يعيد علي نفسه، نفس الجملة «لو كنت أعلم». كانت عشيّة بهيّة. زرنا الحدائق والأجنّة ونظرنا في ما كان من عمران ومن ماء متدفّق. زرنا المغازات وما كان فيها من سلع مختلفة. جلسنا على كراسي عموميّة وعاينّا ما كان من نظافة ومن جماليّة...

في آخر العشيّة، في الطريق الى دار خالتي، سألت جدّي عن قوله المتكرّر: «لو كنت أعلم». نظر اليّ. تردّد. سكت لحظة ثم قال «لو كنت أعلم أنّه يوجد مثل هذه الأجنّة في الأرض لما كنت ذهبت الى هناك، الى مكّة. لو كنت أعلم ما في فرنسا من نظام ومن نظافة ومن تقدّم لكنت أدّيت الحجّ اليها دون مكّة. لو كنت أعلم أنّ هنا هي الجنّة وهذه أشجار وظلال وأنهار وتين وزيتون وعنب لما ذهبت الى الحجّ. لو كنت أعلم لغيّرت قبلتي دون أن أغيّر معتقدي»... كان لجدّي ما أراد. بعد الزيارة تلك، عاد الى فرنسا مرّات أخرى. في كلّ مرّة، يمشي الى قبر أخيه. يقرأ الفاتحة وآيات بيّنات ثم يعود الى القرية ليقول ما رأى من جنّة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115