(2)
كان من الممكن لحزب «نداء تونس» المنتصر الاول بأغلبية النواب في البرلمان ان يؤلف الحكومة برئيس من نداء تونس ، كما يتولى رئاسة مجلس النواب ، وكان حزب النهضة الاخواني هو الثاني في الترتيب من حيث الأغلبية، وهو الحزب الذي حذّر طويلا من التغوّّل ، وهو الذي تغلغل وتوغل في مفاصل الدولة عندما كان على رأس حكومة «الترويكا».
وكأنّه لا يحذّر من التغول جَهْرًا الا الذي يمارسه سرّا !
(3)
اختار الباجي رئيسًا لحكومة تكنوقراطية من غير نداء تونس هو الحبيب الصيد الذي اتهمت حكومته ب « الايادي المرتعشة» او المرتبكة العاجزة عن الحسم في كثير من القضايا المصيرية مثل التعاطي المتسامح مع ملف الاٍرهاب ، بسبب الجاذبية الحزبية الاخوانية التي باتت تُمارس دورا شبيها بدور الزوجة التي تحترم زوجها امام اَهله وعشيرته ولكن ما ان يحل الليل ويذهب الأهل والرقابة الاسرية حتى تنفرد الزوجة بزوجها بهدف واحد هو ان ينحنيَ لاوامرها في السر ، وله ان يقول في العلن ما يشاء( حفاظا على الهيبة والرجولة،) خاصة بعد ان قضي الأمر، و باح راشد الغنوشي بانه انتخب الباجي في الرئاسية. وفضّله على الحليف الرسميَّ منصف المرزوقي .
(4)
صارت كلمة الشيخين تعني الباجي وراشد، ولقد رأى الشيخان ان يبدآ الألعاب في ثورة الشباب ، وأحبّا ان يتوافقا ويترافقا ، ويتعانقا في السر ، بمنطق المصلحة العليا لتونس التي تقتضي التوفق والتوافق والتشافق ، حفاظا على وحدة تونس الغارقة في الديون والخائفة من غول الحزب الواحد ومن الاٍرهاب المربوط بتلابيب النهضة باعتبارها الحزب الوحيد القادر على فهم لغة الإرهابيين والمهربين وإيجاد لغة مشتركة مع هؤلاء الذين تدربوا في الجبال وفي الشعاب لخوض الحرب المقدسة في تونس أو سوريا او اي مكان ممكن لاشهار راية دولة الخلافة
(5)
الكل يعرف ان حزب نداء تونس هو فكرة تكوّنت في زمن قياسي ، بفضل هجمة الاخوان المنظمة على السلطة والمجتمع ، فجاءت عناصره من كل الرؤى والمٍزَق السياسية والعائلات الفكرية المناهضة للنهضة ، والشخصيات المستقلة ، وكانت تتحرك على وقع الأمل الذي كان يحدو الجميع بقرب قيام ساعة الحساب والعقاب مع النهضة التي جعلت الجريمة السياسية والاقتصادية والثقافية المنظمة مفردةً مألوفة في قاموس الحياة التونسية .
(6)
ترك حزب « نداء تونس « رئيسه في قصر الرئاسة ، وصار ، بلا رأس ، فرأسه الاول المدبر ، المفكر ، المحنك ،التسعيني ، الخارج من كفٌ بورقيبة ، بات ممنوعا من النشاط الحزبي ، وكان على الجميع ان يلتفت الى إشارات هامسة من الرئيس «الندائي» الى جماهير حزب النداء وما مثله بالنسبة للنساء خاصة.
هذا الرئيس بات يتحاور مع الاخوان ، في إطار الوفاق ، وياخد برايهم وبخاطرهم، ويسمعهم من قريب جدا ، واصبح عدوّ الحملة الانتخابية صديقا او شريكا في الحكم، وباتت الدولة مجرد شركة، ولكل سهمه ونصيبه في الصفقات الكبرى والمناصب والحقائب .
(7)
لم يعد ممكنا لجمهور و أنصار نداء تونس الا ان يعودوا أدراجهم الى مربعهم الاول ومنابعهم الأيديولوجية ، فلم يستطع نداء تونس ان يتحول الى حزب فاعل على الارض ، وذي استراتيجية مستقبلية .
لقد أرهقت الحكومة بتصريف شؤون يومية مكبلة لكل حكومة تريد ان تفرض وجهة نظر جربها ، فلم يستطع الاخوان في فترة حكم الترويكا ان يكونوا في حل او في حرية او سلام مع المجتمع المدني وثقافته التي دافع عنها وهي ثقافة التنوير والحياة
ولم يكن نداء تونس قادرًا هو الاخر على محو اثار النهضة وحاول التخفيف من تأثيرها في النسيج الاجتماعي والسياسي ، ولكن النهضة ما انفكت تبتزّ مؤسسات الدولة من اجل ترسيخ هدف سري يسري مثل البنج في الجسد السياسي، وصار للنهضة اُسلوب ابتزازي لخصومها فهي الزوجة التي تقرر ، وهي التي ترضى على الوزراء و السفراء والمدراء والمناصب الكبيرة او لا ترضى ، وهذا ما خلق طابورا طويلا من الانتهازيين ، والشخصيات والنخب التي تحضر الى مقر حركة النهضة ، وتنتظر مقابلة راشد الغنوشي لتقبيل يده ونيل الرضاء السياسي.
(8)
وحاول راشد الغنوشي التوسيع في خريطة زبائن النهضة ، وذلك بالتقليل من الأهمية الدينية في حزبه من اجل استمالة شقوق وشخوص واتجاهات في نداء تونس، ومغازلة المجتمع في شقه الديني ، ورغب حزب النهضة في ان يفوز بالدنيا دون ان ينسى نصيبه من الدين من خلال فتح باب دعويّ في بيت النهضة ، وهذا الباب زاد في ارباك حزب نداء تونس الذي صار غير قادر على لم شمل منخرطيه ، وصارت النهضة تشبه النداء، وتم نحت كلمة «النهداء».
(9)
وبات نداء تونس يشبه تركة لرئيس حيّ جعل ابنه « حافظ قايد السبسي « فاعلا ونفاذا في نسيج الحزب وهيكلته ، وقادرا على الالتحام بالنهضة الاخوانية التي يسرت له السبيل لكي يلتقط انفاس التحالف مع الاخوان ، وهكذا التقط حافظ قايد السبسي صورة مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في قصره الرئاسي بالعاصمة انقرة ، وصارت أفكار التوريث التي لم تعرفها تونس في عهدها الجمهوري ، تسيطر على المؤسسين للحزب الحاكم.
وبمثل هذا ، زاد انفراط عقد الحزب، فخرج منه من خرج ، وانشق من انشق ، واستقال من استقال ثم عاد الى البيت والطاعة ،وتسربت اسرار الحزب ، واتهمت النهضة بأنها شقت الحزب ، (وهي تهمة غير وجيهة في اللعبة السياسية حيث من حق وواجب اي حزب ان يفتت الحزب العدو او المنافس ) ،
واختل التوازن في البرلمان الذي اتهم بعض أعضائه بأنهم جاهزون للمفاوضات على بيع اصواتهم او الغياب في القرارات والتشريعات الحاسمة ، وصارت محاولة محسن مرزوق في بناء حزب « المشروع » نوعا من الحلّ بالنسبة لمن رأى انه لا يمكن العمل ضد مشروع النهضة تحت راية ابن السيد الرئيس الذي بات متغلغلا في مفاصل الحزب.
(10)
هل تبقى النهضة حزبا قويا ومنظما بعد ان صار حزب نداء تونس ممزقا والبلاد التونسية مقبلة على انتخابات بلدية حاسمة ؟
وهل ان نداء تونس ، رغم كل ما هو عليه الان من تشتت مجرد فكرة حزب للتوازن ضد الاخوان؟
و هل الاخوان يتمسْكَنون ، ويهيؤون أنفسهم سرا وجهرا، ويتحولون ولكن في ثبات على مبدأ الاخوان ، وكلهم على مرأى ومسمع من المجتمع ومن كل الاحزاب ، حتى القبض على زمام السلطة في حرب البلديات القادمة، وما يستتبعه من فرض نمط حياة جديدة وغامضة النتائج والتحالفات؟
ويبقى نداء تونس فكرة لحزب التوازن ،ولنخبة بلا حضور، وبلا فاعلية ولا سيادة على ارض الواقع السياسي.
وأما النخلة في شعار نداء تونس ، فسوف تظل تشير الى الحلم لا بالانتصار على الاخوان المسلمين، ولكن لِطَيِّ صفحة الحزب الغول.