منبر: ألهاكم التوافق

بقلم: منير الشرفي
لنبدأ بالتذكير ببعض أحداث الأمس القريب. فمباشرة بعد

الثورة وجد التونسيّون أنفسهم دون سلطة منتخبة وتعيش في ظل نظام مُؤقّت. ولقد تمّ تنظيم المرحلة بإشراف ما يُسمّى بلجنة عياض بن عاشور لتسيير البلاد لفترة قصيرة انتقالية في انتظار تنظيم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وذلك بالاعتماد على توافق القوى السياسية الفاعلة بالبلاد.

وفي صائفة 2013، انتهت شرعية ومشروعية المجلس الوطني التأسيسي الذي انتُخب لسنة واحدة لصياغة دستور جديد، بعد أن انتهت فترة السنة وبدون الانتهاء من الصياغة.انتهت شرعية المجلس وانتهت معها شرعية المؤسسات المنبثقة عنه، وأعني الحكومة ورئاسة الجمهورية. إلا أن الترويكا الحاكمة آنذاك رفضت التخلّي عن السلطة بتعلّة أنها مُنتخبة، عملا بمبدأ «ويل للمصلّين»، إذ لا أحد من «المُنتخَبين» قبل الاعتراف بأن انتخابهم كان لفترة محدودة في الزمن ومُحدّدة في المهام.

اعتصام الرحيل ولّد الحوار الوطني الذي شاركت فيه كل القوى الوطنية بالبلاد. وللتاريخ رفض حزب الرئيس المُؤقت المشاركة فيه، وهوما فتح له باب الخروج من السلطة، كما أن حزب النهضة رفض الحوار في البداية ثمّ قبله بامتعاض شديد. وانتهى الحوار إلى حلّ توافقي يعرف الجميع ما آل إليه.ولقد اضطررنا مرّة ثانية إلىاللجوء إلى التوافق في غياب سلطة شرعية مُنتخبة، ولفترة محدودة.

هذا التذكير السريع أردت منه التأكيد على أن مبدأ «التوافق» كان ضروريا لإخراج البلاد من أزمتين خطيرتين تردّت فيهما. وهو إذن آلية مُؤقّتة لحلّ مشكلة ظرفية، وبعيد كل البعد عن أن يكون سياسة دائمة أو طريقة استراتيجية للعمل السياسي طويل المدى.

واعتماد التوافق كطريقة لتسيير البلاد ما هو إلا شكل من أشكال تحويل الوجهة الطبيعية للديمقراطية. ذلك أن الديمقراطية تعني بالأساس حكم الأغلبية وإبعاد الأقلّية عن السلطة، حتّى إذا كان الفرق بينهما صوتا واحدا في الانتخابات. فهل يُمكن أن نتصوّر الرئيس الأمريكي الجمهوري المُنتخب، دونالد ترامب، يُشرّك في حكومته أعضاء من الحزب الديمقراطي المُنهزم في الانتخابات الرئاسية ؟ طبعا لا. وهل يُمكن أن نتصوّر تشريك عناصر من حزب مارين لوبان في حكومة فرانسوا هولوند أو حتى في حكومة ساركوزي في فرنسا ؟ طبعا لا. فالديمقراطية هناك عريقة وتحترم أصوات الناخبين.

ما نُشاهده في تونس هو أن الرئيس المُنتخب، والذي ركّز حملته الانتخابية على شعار «من لا يُصوّت لي فكأنّه صوّت لفائدة النهضة»، يُشرّك هذا الحزب في كل كبيرة وصغيرة. بل أن هذا الحزب، الذي لم يحصل على أكبر عدد من مقاعد المجلس النيابي ولم يفز مُرشّحه في الانتخابات الرئاسية، يُشارك في تسيير البلاد دون قناع ويُنافس حتى رئيس الجمهورية في أحد أهم مجالات اختصاصه القليلة، وأعني السياسة الخارجية.

كما نُشاهد في تونس أن الحزب الذي قبل عن مضض آلية التوافق في الفترة التي كانت البلاد في أشدّ الحاجة إليها يُصبح أكبر المدافعين عنها، حتّى أن «التوافق» يكاد يُصبح أهمّ المبادئ التي يدافع عنها هذا الحزب. بل أن عبارة «التوافق» أصبحت تتكرّر في خطب وفي بيانات حزب النهضة أكثر من عبارة «الإسلام»، ولا يخفى على أحد أن الإسلام السياسي هو المنهج الأصلي والدائم للنهضة، وهو مبدأ سياسي لا يقبل التوافق باعتبار أن الإسلاميين يعتقدون أنهم يملكون لوحدهم الحقيقة المُطلقة.

الفرق شاسع بين ما يجهرون بقوله وما يُسرّون من اعتقاد. والخطاب المزدوج من شيمهم. وخطابهم لا يعكس في الواقع سوى ما تتطلّبه المرحلة من تكتيك للبقاء في السلطة في انتظار الوقت الذي يرونه مناسبا للانقضاض عليها ووضع نقطة النهاية للديمقراطية. إذ كيف لمن يعتقد أنه يملك الحقيقة المُطلقة أن يستشير «الجهلة» في تسيير شؤون «الأمّة» ؟

إن المشاكل العويصة التي تتخبّط فيها البلاد، من إرهاب وفساد ورشوة وفوضى وعدم احترام القانون...، مردّها غياب سُلطة تستمدّ شرعيتها من الشعب وتحترم إرادته، لأن السلطة القائمة اليوم في تونس تُسيّر البلاد بالاعتماد على ذلك المبدأ اللقيط الذي اسمه «التوافق» دون احترام حقيقي لصندوق الاقتراع. هذا المبدأ يحدّ بشكل رهيب من امكانيّات صاحب السلطة الذي يجد نفسه غير قادر على التحرّك أو على اتخاذ أي قرار دون موافقة الفائزين والمنهزمين على حدّ السواء، رغم اختلاف توجّهاتهم، دون محاسبة أيّ كان من أحد أحزاب التوافق، حتى المُخالفين منهم للقانون بشكل واضح. وهو ما يُشكّل حاجزا أمام كل إجراء جريء يُحاسب المخالفين للقانون والداعمين منهم للفساد وللتهريب...، وكم نحن بحاجة إلى إجراءات جريئة.

في هذا الوضع المختلّ، أصبحت القوانين غير مُفعّلة في الكثير من القضايا، خشية المساس من مصالح هذا الطرف أو ذاك، السياسية منها والشخصيّة، وأصبحت التسميات في مفاصل الجولة مُعطّلة بسبب «وجوب» إرضاء مصالح طرفي التوافق حتى وإن كانت متناقضة،كما أصبحت المؤسسات تعمل بالطرق التي تُرضي الجميع، جزء منها يقوم بأقل من واجبه وجزء آخر يتجاوز حدوده. وضاع في الأثناء المبدأ العزيز على الديمقراطيين التونسيين الذين طالما ناضلوا وضحّوا من أجل تحقيقه، وأعني دولة القانون والمؤسسات.

ضاعت علينا فرصة الانتقال الديمقراطي السريع لوضع أسس الدولة الديمقراطية المدنية لنعيش، بسبب «التوافق»، فترة اتّسمت بالوقوف بدل التقدّم. ومن لا يتقدّم فمصيره الحتمي هو التأخّر. فعمّت الفوضى وازداد الفسادوانتشر الاستهزاء بالقوانين... وتآكل الحزب الفائز.

المرشحّون للانتخابات القادمة سيُقدّمون دون شك كثيرا من الوعود العسليّة. فمن منهم سيكون المهدي المُنتظر الذي سيكون صادقا في كلامه ومُنفّذا لوعوده ؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115