في طريقي الى المعرض، كانت الشوارع ممتلئة سيّارات. في كلّ سيّارة عبد واحد أو اثنان.أرى أناسا كثيرين على الرصيف يترقّبون الحافلة وأراني أنا والكثير مثلي يتبختر كلّفي سيّارة. هذا اختلال. لا أدري متى يقع النظر في مثل هذه الاختلالات المشتركة وكيف ترشيد الناس...
وصلت المعرض. دخلته مسرعا. في المدخل اعترض سبيلي موكب السيد راشد الغنّوشي وسط جمع من أصحابه وعسسه. كان الرجل في قلب الحلقة وحرّاس عديدون يمشون على الجانبين ومن خلف. نظرت في الرجل فرأيت وجهه أبيض كالشمع، فيه شحوب واستنزاف. لا سريرة ولا اشارة في محيّاه. كأنّه أطليّ صبغا. الى جانبه، في ما أظنّ، ابنه. هل هو ابنه؟ قد يكون والشبه، في ما أعتقد، ما كان بين الوجهين من صفرة وبياض. في بلد فيه شمس حاميّة، الوجه الأبيض الأصفر هو وجه لافت...
لم آت الى المعرض للنظر في وجوه الناس. أتيت لأرى ما كان في المعرض من كتب ولأسأل هل كان هناك وجود لكتابي «ورقات»... كنت نشرت كتابي هذا منذ عدّة أشهر ولم يلق كتابي في السوق اقبالا.المعرض فرصة لبيع الكتب. لعلّه هنا سوف يباع... حملت معي نسخا من الكتاب وتجوّلت في أقسام المعرض أعرضه على من أراد... بعد سعي وسؤال، عدت بكتبي بعد أن وزّعت نسخا مجّانا على بعض الأخلّة والرفاق. اهداء الكتاب خير من تركه في الظلمات... لا يهم. الكتاب القادم سأبيع أكثر، ان شاء الله...لا أدري لماذا لا يباع كتابي. كنت أعتقد أنّي ألّفت كتابا جميلا. لكن للقرّاء رأي آخر. هم أحرار...
كيف لقيت معرض الكتاب؟ بائس. فيه ضوضاء ومصادح تصدّع الرأس والفؤاد. كان الناس قلّة وهناك صبية. البيع والشراء قليل وحسب أحد الباعة،في السوق كساد.فمن يقرأ الكتاب اليوم في تونس؟ لا أحد. في ما أرى، قلّة كانت تشتري كتب الفقه والاسلام...لا أدري كيف يشتري الناس مثل هذه الكتب ويعرضون عن كتابي؟ مرّة أهداني صاحبي عمر كتاب «الموطّأ» وكان مزركشا، بهيّ الألوان. قرأت الكثير من صفحاته. لا شيء يقرأ في الكتاب. كلّه وقائع قديمة، أكلها الزمان. مرّة أخرى مدّني جاري بكتاب لابن تيميّة وحثّني حثّا على قراءة ما جاء في الكتاب. لم أجد في كتاب ابن تيميّة ما ينفع الناس...
تجوّلت في أجزاء المعرض. لم يعجبني المعرض. زوّار قليلون. كتب عربيّة مزركشة، جلّها قديم، لهفه الزمن. أمّا الكتب الأجنبيّة فهي نسبيّا قليلة وأظنّها في الغالب كلاسيكيّة. هناك أجزاء في المعرض لا يدخلها أحد وهجرها أصحابها بعد أن أدركوا أن لا أحد يهتم بما جاء فيها من كتاب...
بعد نصف ساعة، شدّني الضجر وقررت العودة لمّا سمعت هاتفا يقول ان هناك محاضرات في الطابق العلوي.كانت الأولى للشعر. في القاعة أعداد قليلة من الحاضرين وخمسة أو أكثر من الشعراء... كنت أودّ أن أستمع لزميلتي روعة قاسم الصحفيّة في جريدة المغرب وهي تقرأ أشعارها. وصلت متأخّرا واستمعت الى شاعرين يقولان ما لا أفهم من الكلام. في حماسة كحماسة عنترة يردّدون كلاما فيه تضخيم ومبالغة. ثم حضرت نقاشا بين السيد أحمد كرعود اليساري القديم وسجين برج الرومي والسجين الاسلامي لطفي زيتون. تحت نظر الدكتور عبد الجليل بوقرّة أستاذ التاريخ، استمعت الى المداخلتين. أعجبني لطفي زيتون وما قاله من تحليل فيه تجديد وتجاوز للخطاب المتداول.أمّا أحمد كرعود فأعاد ما أعلم... كانت القاعة ممتلئة كبيضة وكان أنصار النهضة كثر... انتهت الجلسة وأهدى أحدهم زيتون باقة ورد وعاد كرعود بخفّي حنين فلم أستسغ وأهديت المناضل اليساريّ كتابي «ورقات» تعبيرا على الامتنان... لا أحد يريد شراء كتابي فها أنا أهديه بكلّ سعادة لأحبّائي..