كنت وعديد المرضى ننتظر، في بعض ازدحام، في بعض ضجر. في المستشفى، يجب الصبر وكذلك في المصحّات الخاصّة. الطبيب رجل مهمّ. شغله لا ينتهي. كنت أنتظر الطبيب وقلبي مفعم صبرا. أنا مسرور بما جاء في المفراس ولا أرى عسرا في الترقّب. كنت أنظر في المارّة. كنت أقرأ في ما علّق من مناشير. تدعو المناشير الى ندوات علميّة. في كلّ شهر، هناك ملتقى ينظّمه هذا الفريق والآخر في نزل فخم. في ما أرى، يتمتّع الأطبّاء بحظوة وتبجيل. هم دوما في السفر، في الملتقيات، في النزل. كيف لهم أن يجتمعوا مرّات في مثل هذه النزل؟ من يتكفّل بتكاليف الاقامة والسفر؟ في ما أعتقد، مسدّد النفقات هم مصانع الأدويّة...
في ورقة بيضاء صغيرة، في ركن، علّقت «لائحة عامّة» لاتّحاد الشغل. قرأت الورقة. في مقدّمة البلاغ كالمعتاد، جاء «تثمين للدور الرياديّ للاتّحاد»، ثم كانت النقاط المختلفة. أوّلها «استنكار للتسويف وللمماطلة التي تنتهجها السلطة» ثم تأتي المطالب وكانت جميعا في علاقة بالترفيع في الأجور، بالزيادة في الترقيات، «بمجّانيّة العلاج للأعوان ولذويهم»، الى غير ذلك من الطلبات المختلفة... في نهاية النصّ، كان التهديد وقد جاء تصاعديّا: وقفة احتجاجيّة في المؤسّسات فتجمّع قطاعي بالقصبة فإضراب عام يوم 29 مارس الجاري (تأجّل الاضراب العام ليوم 5 أفريل القادم)... قد يكون النقابيون على حقّ في ما طلبوا. من حقّهم أن يضربوا. هذا ما كتبه الدستور. عمّت تونس اضرابات لا تنتهي. منذ الثورة، نكاد من العمل ننتهي...
ما أضجرني في بلاغ نقابة الاتحاد ليس الاضراب فهذا اليوم صناعة مزدهرة. ما اضجرني هو ما جاء من كلام رتيب ومن قول نمطيّ، ممجوج. لا أدري لماذا بلاغات الاتّحاد في كامل التراب ومنذ أوّل الزمان، تحمل نفس الشعارات، تعيد نفس الجمل والمفردات؟ أفلا يقدر أهل النقابات تغيير الكلام واعادة تشكيل الأنماط؟ غدت بلاغات الاتّحاد و لوائحه تمائم وتعاويذ تحفظ وتعاد كلّ مرّة. أمّا السؤال الذي حيّر فكري وهزّ فؤادي ولم ألق له جوابا فهو: لماذا لا يطالب أهل الاتّحاد وان مرّة واحدة كلّ عشر سنين، بتحسين الجودة، بالزيادة في الانتاج في القطاع العام وقد جاء القطاع العامّ خدمة للناس المعوزين؟
كنت أنظر في أمر النقابات وكيف هي كدار لقمان، لا يمسّها زمن ولا يحرّكها مكان، لمّا طلع الرجل علينا يرتدي ميدعة بيضاء وفي عينيه ارهاق وفي محيّاه ابتسامة. حييت الطبيب وردّ الطبيب على تحيّتي بأحسن منها. كنت على صلة بالدكتور مصباح وأرى فيه منقذا. هو الذي نزع الورم الخبيث وأعادني للحياة. دخلت وزوجتي الى مكتبه. أريته ما جاء في المفراس من خبر. أنا لا أفهم كلام الأطبّاء وزوجتي هي مترجمتي. زوجتي هي طبيبي وممرّضتي. هي الساهرة على ليلي ونهاري. زوجتي هي عماد حياتي...
النساء هنّ قوام الحياة. في تونس، النساء هنّ من يحمل الأعباء والعباد. أصبحت النساء عماد الدنيا. حيث تمشي تلقى النساء. يشتغلن الليل والنهار، في كلّ مكان... في قاعة المفراس، هناك 11 طبيبا مختصّا. 11 طبيبا هنّ من النساء. في مكاتب الاستقبال، في المخابر، في المدارج وحيث تولّي وجهك تلقى وجوه النساء... الحمد لله أن تحرّرت في أرضنا النساء. الحمد لله أن تواجدت المرأة في الادارات، في المصحّات، في الجامعات، في المغازات... النساء، هنّ من يحمل البلاد...
ها أنا أعود الى سالف أمري. ها أنا أنظر، أسأل، أنتقد، أرفض ما كان يجري. أمشي حيث يحملني الظنّ. أنتهي مع ذاك الزمن المظلم. انتهيت من المرض. انتهيت من تلك المتاهات. نسيت المفراس والورم. نسيت القبر والحشر وعذاب السماء العليا. انتهى ذاك الزمان. في عينيّ نور مشعّ. في رأسي أسئلة مشرقة. لي اليوم مشاريع عدّة... لسوف أكتب وأكتب حتّى أكون مختلفا. لسوف أقول ما أرى من رأي وان جاء الرأي مختلّا. لسوف أسعى وأقاوم الخرافة والتعصّب. لسوف أناصر العقل والحرّيّة والعيش المختلف. لسوف أحيا...
انتهى