العالـم في عيون الأدباء

يتميز الأدباء والكتاب بقدرة فائقة على قراءة الواقع وفهم التجاذبات الخفية التي تعتمل فيه وتؤثر فيه وتدفعه في اتجاهات مختلفة. فلهم من الحساسية ومن الشاعرية ومن القدرة على التأمل في صمت ما يجعلهم قادرين على رؤية الصرخات المكتومة والأحلام

المغدورة وجملة التناقضات التي تتفاعل وتعتمل في أحشاء المجتمع.

تحمل قصصهم وشخصياتهم جملة هذه الأفكار والمشاعر المتناقضة لترسم لنا صورة عن العالم الذي تعيش فيه والأخطار التي تحدق به .وهذه القدرة على مسك وإعادة آمال الناس وأحلامهم بطريقة فيها الكثير من الشاعرية والحماسية جعلت العديد من الروايات والآثار الأدبية تدخل في مجال الإبداع الإنساني لتصبح في بعض الأحيان إرثا مشتركا بين شعوب العالم يحمل آلامهم وأحلامهم وفي هذا المجال يمكن لنا أن نذكر بعض الروايات على سبيل المثل لا الحصر من ضمنها «الحرب والسلم» للكاتب الروسي تولستوي و «هاملت» لشكسبير و»دون كيشوت» للكاتب الاسباني سرفنتاس و»يوليس « للكاتب الايرلندي جيمس جويس ورواية «البحث عن الزمن المفقود « للكاتب الفرنسي مارسيل بروست « والبؤساء» للكاتب الفرنسي فيكتور هيقو و «الغريب»للكاتب الفرنسي ألبرت و»مئة عام من العزلة» لغابريل غارسيا ماركيز و» 1984» لجورج اورويل وغيرها والقائمة طويلة .

هذه الروايات تؤكد هذه القدرة الفائقة التي يتمتع بها الأدباء بقراءة المجتمعات الإنسانية وفهم جملة التناقضات التي تتفاعل فيها والأحلام والآمال التي تقود حركة التاريخ فيها لاخراجها في أثار فنية وأدبية تبقى معنا لأجيال عديدة تحمل الأمل الإنساني .

ولا تقتصر هذه النظرة الثاقبة للأدباء والمملوءة بالشاعرية وبفيض الأحاسيس على استقراء الواقع بل تتجاوزه لاستبيان ومحاولة وتنبؤ العالم الآتي.وقد لعب الأدباء دورا هاما في الإشارة وتحسيس الناس والمجتمعات الإنسانية بالأخطار التي تحدق بهم في الفترات الهامة والتحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات .فلعب الأدباء دورا هاما في التنبيه إلى أخطار صعود القوى الفاشية وأهوال الحروب وصعود بعض أخطار المجتمعات الرأسمالية كتغليب الربح على مبادئ التضامن الاجتماعي .هكذا إذن والى جانب دورهم الأدبي والفني فإنّ للأدباء والفنانين بصفة عامة دورا سياسيا هاما من حيث قدرتهم على مسك آمال وأحلام المجتمعات الإنسانية قبل السياسيين والمناضلين بشكل عام نظرا لقدرتهم الفائقة على التأمل والإصغاء والوصول إلى الأحاسيس الدفينة التي تعتمل في نفوس الناس.كما يتواصل هذا الدور السياسي في هذه القدرة على استقراء التنبه للخطر الآتي والأزمات المحدقة قبل الآخرين واخذ على عاتقهم معارك حماية مبادئ الحرية والكرامة.

لهذه الأسباب حاولت أن أتابع منذ مدة أراء وقراءات الأدباء للعالم الذي نعيشه اليوم والأخطار التي تحدق بنا منذ أشهر.ولم أجد إلى اليوم إلا بعض الكتابات المتفرقة والتي لا يمكن لها أن تشكل رؤية متكاملة حول نظرة الأدباء للعالم.

وقد ازدادت حدة هذا السؤال في راسي ونحن على أبواب معرض الكتاب في بلادنا والدورة المتميزة التي أعدها الصديق والأستاذ صاحب «الطلياني « شكري المبخوت – ولم يطل بي هذا التساؤل حول رؤية الأدباء لعالمنا اليوم طويلا فقد خصصت منذ أيام صحيفة ليبيراسيون Libération الفرنسية عددا خاصا اشرفت عليه مجموعة من 20 أديبا من كل بلدان العالم.وهو تقليد دأبت عليه الصحيفة منذ سنوات وتعطي فيه الكلمة لأدباء العالم بمناسبة معرض باريس للكتاب.

وقد جاء العدد ثريا ومهما وقدم لنا وجهة نظر خاصة وحماسية كبيرة في قراءة قضايا العالم والأخطار التي تحدق بنا .وقد اهتم الأدباء في – العدد وفي مقالاتهم بأهم التطورات التي عرفها العالم من تصاعد الظاهرة الإرهابية إلى تنامي الحركات الشعبوية واليمينية والتي كانت وراء انتصار ترامب في الانتخابات الأمريكية وتراجع الأفكار الليبرالية والقوى الديمقراطية في العالم.

ولعل أهم مرجع أشار إليه الكتاب والأدباء في مقالاتهم هو كتاب «1984 لصاحبه البريطاني جورج أورويل .وهذا الكاتب يعتبر احد أهم الكتاب البريطانيين بالرغم من عدم غزارة إنتاجه الأدبي.وهو مناضل اشتراكي تبنى الأفكار الشيوعية عند التصاقه بالطبقة العاملة.ثم التحق بالقوات الجمهورية في الحرب الأهلية الاسبانية وهناك تعرف على اغلب القوى السياسية المشاركة في الدفاع على الجمهورية ومحاربة قوى فرانكو والقوى الفاشية – وقد كان لهذه التجربة تأثير كبير على مسيرة أورويل الفكرية والسياسية وخرج منها ناقما على الأحزاب الشيوعية وبصفة خاصة على المنظمات ذات التوجه الستاليني.

ومن هنا انطلق أورويل في بعض الكتابات وبصفة خاصة في إعداد أهم اثر أدبي في تجربته والذي سيبقى لسنوات طويلة من أهم الكتب الروائية العالمية- وقد صدر هذا الكتاب سنة 1950 وهو يروي وضعية بريطانيا سنة 1984 اثر الحرب النووية العالمية. وبصفة خاصة يشير أورويل إلى صعود الأنظمة التوتاليتارية أو الشمولية في العالم والتي تحاول بناء أنظمة سياسية وبوليسية.
تراقب مراقبة دقيقة كل رقيقة وكل حركات مواطنيها وتحد بطريقة جذرية من هامش الحرية الذي يتمتع به المواطنون في – المجتمعات الديمقراطية –

وفي نظرة اورويل فان الأنظمة الكلية أو الشمولية الستالينية أو النازية هي التطور التاريخي - للمجتمعات الرأسمالية والتي ستضع أجهزة المخابرات والمراقبة الضرورية للاطلاع على كل صغيرة وكبيرة في حياة المواطنين – وهذا التطور هو نفي ونهاية الأنظمة الديمقراطية ومبادئ الحرية لتدخل المجتمعات الإنسانية مرحلة جديدة من الاستبداد والقمع.
ولعل أهم شخصية بقيت لنا من هذه الرواية هي شخصية Big Brother أو «الأخ الأكبر» والتي دخلت إلى ثقافتنا السياسية والفكرية .والأخ الأكبر هو العين التي لا تنام والتي تراقب كل إنسان وتمنعه من الخروج عن الضوابط التي يحددها النظام الشمولي.

ويشير اغلب الكتاب والأدباء المساهمين في هذا العدد الخاص منLibérationان العالم بدأ يأخذ هذا المنحى الخطير والذي يتجه إلى نهاية مبادئ الحرية والديمقراطية والتوجه إلى بناء أنظمة قوية وشمولية قادرة على فرض النظام وإعادة بناء هيمنة الدلو القوية ولو بقوة الحديد والنار. وينبه الأدباء بكل قوة ويؤكد اغلبهم أن هذا المنحى الذي يعرفه العالم ستكون نتائجه وخيمة ولن يزيد الوضع العالم إلا انخراما وتفتتا وهيجانا.

إذن كيف يمكن لنا أن نتفادى «1984» وعودة الشمولية إلى عالمنا ؟ يؤكد اغلب المساهمين في هذا العدد الخاص أن الرد الوحيد يتمثل في المقاومة والثورة .كما يؤكد جلهم أن واجب الأدباء هو الانخراط في المقاومة في الفترات الصعبة التي تعرفها الإنسانية ولما تحدق بها المخاطر والكوارث .

وقد خصص هذا العدد مقالا . خاصا للعالم العربي ولمصير ثورات الربيع .ولعل أهم مساهمة في هذا المجال هي مساهمة الكاتبة السورية سمر يزبك والتي صدر لها كتاب بالفرنسية «Les portes du néant» أو « أبواب العدم « والتي تحكي فيه عن مسيرتها والمأساة السورية .نص مثقل بالألم والاحزان.تشير فيه أنها اختارت الكتابة كمنحى للهروب من واقع الغبن الذي تعيشه المرأة في المجتمعات الرجولية الشرقية والتي تنفي عن المرأة ابسط حرياتها والهروب كذلك من واقع القمع السياسي والفكري. ولئن انتهت عزلتها كمثقفة في الأيام الأولى للثورة حيث وجدت الحرية التي حلمت بها طويلا إلا أنها سرعان ما عادت إلى منفى الكلمات لتهرب من فظاعة وهول الحرب. لكنها لم تجد الراحة الكافية في هذا المنفى وبقيت تعاني من عقدة الناجي أمام مآسي الآخرين ونمو التطرف.

ونحن نفتتح اليوم معرض الكتاب لابد لنا أن نفهم ونقرأ جيّدا ما يقوله الأدباء والكتاب لا فقط في رواياتهم بل في أحاديثهم ونقاشاتهم – علينا أن نهتم بنا قوس الخطر الذي يدقعونه اليوم أمام المخاطر التي نمر بها. وعلينا لا فقط أن نهتم بهذه المخاطر بل لابد لنا أن نقف لها مع الأدباء والمفكرين سدّا منيعا لحماية النظام الديمقراطي وإعطاء فرصة جديدة للأمل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115