منذ نحو ساعة أو أقلّ أو أكثر، كنت جالسا في قاعة الانتظار. في رأسي نظر وذكرى. هذه زوجتي قبالتي، لا تهدأ. تنظر فيّ وفي الجدران وفي المنافذ. ننتظر الطبيب... فجأة، وقفت زوجتي. ها هي الطبيبة تطلّ وفي يدها ملفّ ضخم، أشخم. نهضت ومشيت اليهما، مسرعا، ألتقط الكلم. أسأل الطبيبة عمّا جاء في المفراس من نبإ. أنظر في عينيها علّي أرى خبرا. «كلّ شيء بخير والحمد لله». ماذا تقولين يا دكتورة؟ «الحمد لله»؟ هل أنا في صحّة وعافيّة؟ هل انتهى عنديّ الورم؟ قالت الطبيبة «الحمد لله». اذا أنا اليوم معافى وقد أتى المفراس بالظنّ الصائب. كنت أسأل ولا أتوقّف. كنت لا أسمع وصوت الطبيبة خافت. أرى في عينيّ زوجتي فرحة واشراقا. أنا فرح بفرح زوجتي. أنا مبتهج بالحمد لله هذه. انتهى المرض. لم ير المفراس في الأحشاء شيئا. أنا أتنفّس ملء صدري وأعيد التنفّس ثانيّة وعاشرة دون توقّف. قبّلت زوجتي بكلّ حماسة. نظرت في الطبيبة وكانت بهيّة، في وجهها زينة ووددت تقبيلها بقوّة. أنا في صحّة جيّدة. أنا انتهيت من المرض. أنا أسبح. أعانق النخيل والقمر. في قلبي زهو وبهجة. غمرتني أضواء مشرقة. أنا أحيا. أنا أحبّ...
كانت الساعة الواحدة بعد الزوال. مازال المستشفى يعجّ بشرا جاؤوا من كلّ فجّ وبرّ. أنا الآن أرى الناس وجوههم. أتبيّن ما في المستشفى من حياة، من حركة. يجب أن أمشي الى الطابق الثالث حيث الدكتور مصباح ليرى ما جاء في الصور. كنت وزوجتي في اطمئنان. انتهينا من المرض. نحن فرحان. كنت أتبختر. أمشي في الأرض مرحا...
في المستشفى، أنظر في الخلق وقد جاء الخلق من كلّ صقع. أتصفّح الوجوه وجها وجها. أرى من العباد من لبس أشكالا وألوانا لم أرها من قبل. كنت ألتقط السمع علّي أتبيّن من أين أتى هؤلاء وقد لبسوا ما لا أعلم. هذه جماعة ترتدي كأهل الصعيد. لعلّهم جاؤوا من مصر، من ليبيا، من جهات نائيّة... جميع من كان في المستشفى، في ما أرى، هم تونسيون وقد جاؤوا من كلّ بقعة، من الأرياف، من السباسب... كنت في زهو. أنظر في هذا الخلق المتدفّق. في مستشفى سهلول تلقى البلاد جميعا. آلاف من البشر. جاء المرضى من كلّ أفق. تونس، في ما أرى، واحدة... في انتظار الطبيب مصباح، كنت أتبيّن ما في الوجوه من خطوط واشارة وما في الأيدي من ماء وثمرة. كنت أنظر في الناس أمامي وقد جاء الناس مختلفون. أحبّ اختلاف الناس هذا. أعشق التباين...
شدّ انتباهي خيال امرأة عجوز. هي عجوز مربوعة القدّ. بدينة الجسم نسبيّا، تمشي بعسر. تشدّ الحائط وفي خطواتها بطء وبعض تعثّر. تلبس رداء أحمر مثل رداء أمّي، رحمها الله. في وجهها حمرة كتلك التي في وجنتيّ أمّي. لها خلّتان من ذهب تشدّ ثوبها الأحمر، كما كانت تفعل أمّي. كنت أنظر فيها. أتثبّت. بين العجوز وأمّي تشابه بيّن. في القدّ، في نطق الكلام، في الملبس، في الحليّ. نهضت أتّبع خطاها. أشمّ رائحتها. أتسمّع. أمشي خلفها كصبيّ وراء أمّه. فجأة، أخرجت المرأة من صدرها هاتفا جوّالا، بخس الثمن. كانت تتكلّم بصوت مرتفع. كذلك تتكلّم أمّي وأهل الريف عادة ومن نقص سمعه. كنت أسمعها تأمر وتنهى ولا تتوقّف. كانت متّكئة على الحائط، عصاها في اليد اليسرى وفي يمينها الهاتف. هي تتكلّم وتتكلّم. في ما أرى هي امرأة حاذقة، عصيّة، تسعى كبقيّة الرجال والنسوة. في ما أرى، عمّت تكنلوجيا الاتّصال الأرض والساحل. في ما أرى، لا أحد اليوم يحيا بلا هواتف... هل أكلّم المرأة؟ هل أحيّيها وأقول لها ما رأيت من تشابه؟