هذا هو الذي سوف ينظر فيّ ويقول ما في الباطن من ظواهر. هذا هو «المدرك للحقائق بالظنّ الصائب». بقيت تحت عجلة المفراس، أنتظر، دون حراك. فجأة تكلّم هاتف من القاعة آمرا: «تنفّس جيّدا. املأ صدرك هواء. انقطع عن التنفّس. ابق كذلك». بعد لحظات قليلة يعود الهاتف يأمر: «تنفّس كالعادة». بينما كنت بين تنفّس وقطع، كانت لوحة المفراس تمشي من الخلف الى الأمام ثم تعود الى الوراء. تواصل الشأن كذلك مرّة أولى وثانيّة وثالثة.
أتنفّس مليّا ثمّ أفرغ ما كان في الصدر من هواء. تمشي بيّ اللوحة الى الأمام، الى الخلف وهذا المفراس يغلي، تدور أضواؤه، يصوّر الأعضاء. كنت في صمت. افعل بانضباط ما أمر به الهاتف من الجدران، بكلّ حرص وتفان... لحظات وجاءني الصوت داعيّا أن أنزل من فوق اللوحة، أن أرتدي حذائي وما نزعت من ثياب وأن أعود الى القاعة في انتظار الفصح وما رآه المفراس من اشارات. قلت للممرّضة وأنا ألبس ثيابي وفي صوتي تودّد واستجلاء: «هل هناك في الصور من نبإ؟ هل رأى الأطبّاء علامات؟» قالت الممرّضة وفي صوتها نهي ورتابة: «دقائق ولسوف تعلم ما جاء في المفراس. اذهب الى القاعة وانتظر هناك». كيف لي أن أنتظر وحياتي مرهونة في صور المفراس؟ كيف لي أن أصبر لحظات وقد ضاقت بي الدنيا وشدّ رأسي غيث ودوران؟ كنت لا أقدر على الوقوف مستقيما. أمشي وفيّ تعثّر.
أنظر ولا أرى. لا أعلم أين الأبواب ولا كيف الرجوع الى قاعة الانتظار. نظرت من حولي علّي ألقى في الوجوه خبرا أو علامة. لا أحد في القاعة ينظر فتتبيّن ما في الأعين من اشارة. لا أحد في قاعة المفراس. كنت وحيدا مع المفراس. بعد تثبّت، رأيت وراء البلور في قاعة مغلقة، أربع نساء. كانت النسوة تنظر منكبّة على شاشات الحواسيب، تتثبّت في ما جاء من صور ومن أشكال. أربع نسوة، شابّات، في مقتبل العمر، يشتغلن دون انقطاع. نظرت اليهنّ وقلت لهنّ بصوت مهزوم، عال: «هل في الصور يا أطبّاء من دلالة؟ هل هناك من علامة؟»...
عدت الى قاعة الانتظار وفيها لقيت زوجتي جالسة في ركن، في نفس المكان. قالت «هل من جديد؟ هل حدّثك الأطبّاء؟» مصفرّ الوجه، في ذهول، لم أجبها واكتفيت بالإيماء. لا أعلم ما جاء في المفراس. جلست حذوها. لحظات مفزعة. دقائق كأنّها العمر. تذكّرت ما كان لي في الحياة من حياة. أدركت عبث الوجود. تبيّنت ما في العيش من سراب وكيف أنّ الانسان رغم ما ادّعى وما أتى من كدّ وصراع هو تفاهة، تبنة، ريشة في مهبّ الرياح... الى غير ذلك من الفكر اليائس، المحبط. الى غير ذلك من الكلام المعتاد. في مثل هذه اللحظات يدرك الانسان ما هو فيه من ضعف ومن هوان. شدّني ندم على ما فات. تمنّيت لو عادت الأيّام.
تمنّيّت لو رجعت الى الماضي لأغيّر فهمي وأبدّل سلوكياتي... لو عاد الزمان، لما كنت أضعت العمر في كلّ تلك الترّهات، في كلّ تلك السخافات، في الكسب، في جمع المال. لو عاد الزمان اليّ، لأنفقت بلا حساب، لأهديت زوجتي أجمل الياقوت والألماس، لما اشتغلت ليلا نهارا، كلّ هذا الزمان، لقطفت الياسمين والشمس والأنوار، لقضيت العمر بين الشفاه والأثداء...