5. أي منوال للتنمية؟ الدولة الضعيفة: كثرة في الوظيف ورداءة في الآداء

في ظلّ الدولة الضعيفة، تزداد أعداد الموظّفين وتثقل موازينهم. تحصل انتدابات كثيرة وزيادات في المنح وترفيع في الأجور. ارضاء لهذا الطرف أو لتلك الجهة، تعمد الدولة الى خلق مواطن شغل جديدة وما هي بمواطن شغل. هي أكواخ شغل تعطى للناس

المعوزين حتّى يأكلوا ويكفّوا عن الهرج. هي مواطن ارتزاق تهبها السلط مكرهة لمن حطّه الزمن أو كان مناضلا أو مات أبوه «شهيدا»...

لم تر تونس أبدا مثل هذا الطوفان في الانتدابات. لم نر أبدا من قبل مثل هذا الفيض في أعداد الموظّفين. تعدّ تونس اليوم، حسب وزير الوظيفة العموميّة، نحو 800 ألف شغّالا وهو رقم مفزع، تجاوز كلّ سقف وحدّ... قبل الثورة، كانت أعداد الموظفين تقدّر بنحو 500 ألف نسمة وكانت السلطات تجتهد للحدّ منها بالتسريح المبكّر، بوقف الانتدابات، ببيع المؤسسات العموميّة. منذ الثورة، اتبعت الحكومات المهتزّة توجّها مختلفا. شعبويّا. في ستّ سنوات، اقحمت في الوظيفة العموميّة نحو 300 ألف نسمة. حسب تقرير للبنك العالمي، ما حصل في تونس من توظيف وما خصّص من أجور يعدّ قياسيّا. أصبحت تونس الأولى، عالميّا.

رغم ما كان من انتدابات شتّى ومن رفع في الأجور ومن ترقيّات مجّانيّة، تردّى الانتاج في القطاع العامّ وساء الحال وانعدمت الجودة. في المنشآت العموميّة وفي الدواوين، لا شغل يكفي للموظّفين ولا انتاج لهم مرضيّ. الكثير من شغّيلة القطاع العامّ، النهار كلّه، هم في قعود، في قيل وقال، في عبث، في لصوصيّة... لمّا يحصل تضخّم وظيفي وتزداد أعداد العاملين عمّا يلزم يقع ارتباك في التنظيم وتفكّك في التسيير وينخرم الانتاج وتكثر التوتّرات وتشتدّ الرشوة...!

أنظر في المؤسّسات العموميّة وفي الادارات وكيف هي اليوم في الدرك الأسفل. أنظر في ما يأتيه الموظّفون ولسوف ترى، عند الكثير منهم، العجب العجاب ولسوف تدرك ما هم فيه من لامبالاة، من سوء تصرّف. أصبح الموظّف العموميّ، في العديد من الحالات، معرقلا للنموّ، كابوسا بغيضا...
يشتكي الناس جميعا مما يلقونه في الادارة من عسر، من تعطيل، من رشوة. الكلّ يشتكي من خدمات تونس الجوّيّة، من صلف عمّالها، من شطط أسعارها، من خساراتها المفزعة. أمّا شركة الكهرباء والغاز فغدت مصيبة وطنيّة. هي اليوم إحدى العراقيل في وجه النموّ. فيها رشوة منتشرة ورداءة. اسأل الناس عن خدمات الستاغ ولسوف ترى الناس في غضب، يلعنون العرب والعجم، يشتكون لما يلقونه في شركة الكهرباء والغاز من فساد ولما يدفعون من رشاو متعدّدة...

نفس السوء نراه في القطاعات العموميّة الأخرى. أنظر في المستشفيات وكيف غدت في حالة مزريّة، محلّ عنف واهمال وسرقة. منذ سنين والمستشفى الجامعي بصفاقس، وليس هو الأوحد، في تفكّك. محلّ صراع بين سلطة الاشراف واتحاد الشغل. لا أحد فيه يحكم بل النقابات هي التي تنهى وتأمر، هي التي تتدبّر، تتولّى التصرّف وما هي قادرة على التصرّف. أنظر في البنوك الوطنيّة وفي خساراتها المزمنة، المفزعة. أمّا شركة فسفاط قفصة فغدت بؤرة فتنة واضطراب دائم. لا أحد فيها يحكم ولا أحد فيها يسيّر. منذ سنين، تتقاذفها الأيدي وتركلها الأرجل. كلّ يوم، تنهش وتنهب على مرأى ومسمع من الناس جميعا ومن السلط. في شركة الفسفاط، النقابات هي التي تولي وتعزل. هي صاحبة القول الأخير والقرار الفصل ولا أحد في الحكومة يعارض. أنظر في حال شركة المياه (الصوناد)، في ديوان التطهير، في السكك الحديدية، في البريد، في الديوانة ، في الأراضي الفلاحيّة، في ديوان تربية الماشيّة، في شركات النقل، في صحف الحكومة، في الصناديق الاجتماعيّة...، ولسوف ترى كيف أصبحت مرتعا للعبث، للتسيّب، للتقاعس، للسرقة...

ثمّ أنظر في التعليم العموميّ بمراحله وتبيّن ما كان فيه من انتدابات ومن زيادات في الأجور ومن تخفيض في ساعات العمل واسأل عمّا كان من انتاج ومن نتيجة وسوف تندهش لمّا ترى ما أصاب المدارس والجامعات من رداءة، من اهمال، من موت حقيقيّ. وبينما المعاهد والجامعات العمومية في تعثّر، بين اضراب وآخر، في شبه تعطيل، ترى المعاهد والجامعات الخاصّة تسعى، تكدّ، تنهض... على عكس التعليم العموميّ، في التعليم الخاص حصل تطوّر، رغم شحّ الموارد. في التعليم الخاصّ، ترى الأساتذة والمعلّمين في كدّ، في سعي. تحت رقابة ادارة حازمة، وأحيانا متعسّفة، تطوّر التعليم لدى الخواصّ وتحسنت فيه الجودة وأصبحت المدارس والجامعات الحرّة، العديد منها، في المقام الأوّل...

في ظلّ الدولة الضعيفة، يصيب المنشآت العموميّة والتعليم والصحّة والقضاء وغيرها تسيّب وانفلات مفزع. في الفضاء العمومي، بردت أيدي المسؤولين وقد شدّتهم حسابات وخشية. خوفا، حفاظا على مناصبهم، ترى المتصرّفين في انكماش وفي وهن. لا أحد يجرأ. لا أحد يفعل. يتخفّون، يتذمّرون، يناورون، يتقرّبون من النقابات ومن الأحزاب علّهم يسلمون، علّهم يرتقون...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115