المتاحف وبناء الهوية الوطنية

طالعت منذ يومين العدد الأخير من المجلة الشهرية Beaux Artsوهي إحدى أهم المجلات العالمية في ميدان الفنون الجميلة والرسم.وتتابع في كل عدد أخبار الفنانين وأهم المعارض في ميدان الفنون التشكيلية على المستوى العالمي وتشكل هذه القراءات

دعوات للقراء لزيارة المتاحف وأهم المعارض الفنية لا فقط في فرنسا بل على المستوى العالمي. وقد ساهمت هذه الدورية إلى جانب مجلات أخرى مختصة في مجال الفنون التشكيلية اذكر منها مجلة Art Press لصاحبتها الكاتبة المعروفة Catherine Milletوالتي أتصفحها على الأقل أول كل شهر لأتابع أهم الأخبار في هذا المجال في تطور السياحة الثقافية وخاصة سياحة زيارة المعارض واكبر التظاهرات الفنية في هذا المجال.

وكعادته جاء عدد شهر مارس لمجلة Beaux arts حافلا بالقراءات والمتابعات حول أهم المعارض والتظاهرات الفنية في ميدان الفنون التشكيلية على المستوى العالمي وكذلك أخبار أهم الرسامين والمبدعين في هذا المجال وقد تضمن عدد هذا الشهر ملفا هاما عن أهم المتاحف الجديدة التي سيقع تشييدها على المستوى العالمي . وقد قدم هذا العدد ما لا يقل عن 20 متحفا جديدا في طور التشييد في مختلف القارات اذكر منها Lafayette anticipation في باريس وCentro Botin في سانتندار في اسبانيا ومعرض الحرب العالمية الثانية في غدانسك في بولونيا ومعرض zeitz Mocaa في إفريقيا الجنوبية ومعرض Yves Saint Laurent في مراكش في المغرب ومركز الملك عبد العزيز للثقافة العالمية في مدينة الظهران بالعربية السعودية ومتحف اللوفر بباريس ومتحف Modern and Contemporary Art في جاكارتا في اندونيسيا وRose Museum في العاصمة الصينية بيكين ومعرض Museo International del Barroco في مدينة Puebla بالمكسيك

وبالرغم من وجود اكبر عدد من المتاحف في الولايات المتحدة الأمريكية فان حركة البناء والتشييد في هذا المجال لم تتوقف لنجد معارض جديدة كـInstitute of Contemporary art بمدينة لوس أنجلس و Institute of comtemporary art بمدينة ميامي وthe bass museum of art بنفس المدينة وتوسيع متحف الفن المعاصر في مدينة سان فرنسيسكو
وقد تنافست هذه المدن في استجلاب أهم المهندسين المعماريين في العالم للإشراف على عملية البناء ولتكون هذه المعارض الجديدة معالم معمارية تحتفل بها هذه المدن و من بين المهندسين المشرفين على هذه المعالم نذكر المهندس الشهير Renzo Piano بالنسبة ل Centro Botin في سانتندرا في اسبانيا والمهندس الفرنسي الشهير jean Nouvel لمتحف اللوفر بابو ظبي وغيرهم من أهم المهندسين المعماريين لتصبح هذه المتاحف معالم هامة لا فقط بما تحتويه من تحف ورسوم وأعمال فنية بل كذلك بأهمية وخصوصية و نجاح هندستها المعمارية

وقد وضع هذا الملف من مجلةBeaux arts إصبعه على التطور الكبير الذي عرفته المتاحف والمعارض في العشرية الأخيرة على المستوى العالمي وتشير الإحصائيات إلى أن عدد المتاحف في العالم قد مرّ من 23.000 متحف في بداية التسعينات إلى 55.000 في الوقت الحالي أي تضاعف مرتين في اقل من عشرين سنة وتبقى الولايات المتحدة الأمريكية اكبر دولة حاضنة للمتاحف والمعارض لنجد هناك ما يقارب 17.500 متحف اغلبها مدعوم من القطاع الخاص ومن المؤسسات الصناعية أما في اوروبا فنجد فرنسا في المرتبة الأولى حيث نجد 1200 متحف متحصل على الدعم العمومي أو تابع لوزارة الثقافة ونجد تقريبا نفس العدد من المتاحف الخاصة

إلا أن التطور الكبير الذي شهدته الساحة الفنية والحركية الجديدة التي عرفتها في السنة الأخيرة تأتي أساسا من البلدان الصاعدة الأسيوية والبلدان الخليجية وبعض البلدان الإفريقية وأمريكا اللاتينية فقد كان للنمو الاقتصادي والتطور الكبير الذي عرفته هذه البلدان انعكاس كبير على المستوى الثقافي والفني بصفة خاصة لتشهد حركة تشييد المتاحف والمعارض نموا لا مثيل له في تاريخ هذه البلدان.
وكما في عديد المجالات الأخرى فقد كان للصين دور كبير في هذه الحركية الثقافية لتعرف اكبر عدد من المتاحف الجديدة وهنا نود الإشارة إلى بعض الأرقام التي تجسد هذا النمو الهام والكبير في هذا المجال فقد مر عدد المتاحف مثلا من 1371 متحفا سنة 2000 إلى 2571 سنة 2011.وتشير بعض الإحصائيات الأخرى إلى انه يقع تشييد ما لا يقل عن 300 متحف سنويا في الصين منذ بداية الألفية ليصل العدد الإجمالي للمتاحف في نهاية السنة هناك إلى 4000 متحف. وهذه الحركية الكبيرة في هذا المجال هي نتيجة للاستثمارات الهامة التي تخصصها الدولة في هذا المجال والتي وصلت حسب بعض الإحصائيات ما يقارب 8 مليار دولار بين سنتي 2008 و2010
والصين ليست البلد الصاعد الوحيد الذي لعب دورا مهما وكبيرا في تطور المتاحف والمعارض على المستوى العالمي فقد ساهمت عديد البلدان الأخرى بدور كبير في هذا المجال اذكر منها دولة الإمارات و اندونيسيا والمكسيك وغيرها.

وقد ساهم التطور والحركية الكبيرة التي عرفتها المتاحف في نمو كبير لحركة السياح المرتبطة بهذا المجال وتشير عديد الدراسات إلى مضاعفة حركة السياح في هذا المجال وآفاقها الايجابية في المستقبل

وقد تابع المشرفون على هذه المتاحف هذا التطور فعملوا على تشجيع شركات الأسفار على تنظيم رحلات خاصة مرتبطة بزيارة المتاحف كما وضعوا في هذه المتاحف مراكز تجارية كبرى لتسهيل عملية التجارة أو Shopping بالنسبة لهاته النوعية الراقية من السياح.

وهنا نود الإشارة إلى أن عملية بناء المتاحف والمعارض لا تقتصر أهميتها على الجانب السياحي والتجاري والاقتصادي على أهمية هذه الجوانب .فبناء المعارض هو أيضا عملية سياسية إن لم نقل إيديولوجية فمنذ بروز أول متحف وطني هو British Museum في القرن الثامن عشر في بريطانيا صار للمتاحف دور سياسي كبير واستراتيجي فالمتاحف تساهم بما تجمعه من آثار وأعمال فنية في بناء الذاكرة والهوية الوطنية والضمير الجمعي الذي يساهم في تركيز العلاقات الاجتماعية والرابط المشترك بين الشعوب

وتلعب المعارض والمتاحف كما أشارت لذلك عديد الدراسات دورا في بناء رواية وطنية أو récit national يتجاوز الخصوصيات الجهوية والعرقية والدينية لتنصهر الشعوب في روابط سياسية ومدنية عميقة تمكنها من العيش المشترك

وبناء هذا التاريخ المشترك والرابط الجمعي لا يقتصر على بناء المتاحف والمعارض على أهميتها بل يتطلب سياسة هامة لتقريب وفتح الأماكن للمواطنين وفي إيصال هذه الفكرة الوطنية إليهم ودعم الرابط المشتركة والقناعة الجمعية بضرورة حمايته ودعمه.

هذه الأسباب والدور السياسي والإيديولوجي للمتاحف في بناء ودعم الهوية الوطنية والضمير الجمعي تفسّر سخاء الدول وخاصة المتقدمة منها في ضخ الدعم والتمويلات لبناء هذه المتاحف وفتحها أمام المواطنين وبصفة خاصة الأطفال والشباب

إلا انه وبالرغم من أهمية المتاحف والمعارض ودورها كما تؤكد عديد الدراسات فان سياستنا في هذا المجال تبقى محتشمة وكلاسيكية باعتبار اقتصارها على تقديم الكنوز الأثرية التي ورثتها بلادنا من تاريخها الطويل كما هو الشأن مثلا في متحف باردو.إلا أن هذه السياسة في رأيي لم ترتق إلى مجال اكبر وهو المساهمة في بناء هويتنا الوطنية والتأكيد على خصوصيتها في علاقة بالآخر وكذلك بالموروث الديني ولعل أهم مساهمة في الأيام الأخيرة في هذا المجال هي المعرض الكبير « L’EVEIL d’une nation » أو ميلاد امة والذي تم تنظيمه في القصر السعيد بتونس العاصمة والذي تعرض لفترة إصلاحية هامة في تاريخ بلادنا وقد ساهمت هذه المبادرة وهذا المعرض في فهم خصوصية بلادنا وأحد أسس ضميرنا الجمعي والذي يفسر عمق التجربة الإصلاحية في بلادنا

والروح التحررية للنخب الحداثية في بلادنا
وقد لعبت هذه التظاهرة دورا كبيرا في تفسير وفهم احدى أهم ركائز شخصيتنا وخصوصيتنا والدور الكبير الذي يلعبه البعد الإصلاحي في ضميرنا الجمعي.
وهذه الخصوصية سيكون لها دور كبير ومؤثر في الحركة الوطنية وفي بناء الدولة الوطنية وحتى في الثورة التونسية وفي نجاحنا في حماية تجربة التحول الديمقراطي من كل الأخطار

إلا أن هذا المعرض سيقفل أبوابه بعد عدة أسابيع من النجاح الجماهيري الكبير ليرجعنا إلى فقر وقحولة معارضنا ملحوظ ومتاحفنا الوطنية هذا الوضع يدعونا إلى المطالبة بسياسة واضحة في هذا المجال لبناء معارض تساهم في دعم ضميرنا الجمعي خاصة للأجيال القادمة بعد ظهور محاولات جدية لنفي هذا الإرث الإصلاحي وتشريك وإعادة بناء ذواتنا ببرامج منغلقة ومتزمتة ورافضة للانفتاح

على الآخر .وهذا العمل لا يمكن له أن يتم إلا بتضافر الجهود بين الدولة وسياستها الثقافية والقطاع الخاص.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115