في البلاد المتخلّفة، قد تنجح الدولة القويّة في تقويم المسالك وتجديدالفهم والنهوض بالبلد.لأنّها تعتقد أنها محمّلة برسالة ربّانيّة، تفعل الدولة في الأرض ما ترى وتدفع بالعباد حيث تشاء. تعتقد اعتقادا لا ريب فيه أنّها المركز وفكرها هو الأبقى، وفعلها هو الأسمى. يدها حديديّة، تمشي حيث تريد، تتدبّر دون معارضة. من طبيعة الحكم القويّ التسلّط. من طبيعة الدولة الربّانيّةالغطرسة. قد تنجح الدولةالقويّة في المسعى وقد تفشل. قد تخطئ السبيل وتمشي في أزقّة مظلمة.غالبا ما يفشل الحكم القويّ، المتفرّد بالسلطة،في تحقيق الغايات، في انجاز التنميّة...
مع بورقيبة، انطلقت الدولة في الستّينات (1961 الى 1969) في التجربة الاشتراكية وفي التأسيس للتعاضد واعتقدت أنّ التعاضد هو السبيل الى التقدّم، الى النجاة من الفقر. كانت دولة بورقيبة غارقة في نرجسيّة مطلقة واعتقد الزعيم وبعض من صحبه أنّ ما يرونه هو الأصوب وأنّفع لهم.. هو الأنفع. ألقت الدولة بكل ثقلها في التعاضد وفرضت غصبا ما ترى من تمشّ ومن منهج. التعاضد هو الطريق الى الغد المشرق و«يجب تطبيق التعاضد في كلّ شأن الا في ما له علاقة بالزوج والزوجة»، كان يردّد الرئيس ومن معه...
فشل التعاضد في سنواته الأولى وجاءت نتائجه مخيّبة. لكن لا شيء يوقف الدولة القويّة المتفرّدة، ولا أحد يقدر على المنع، على المعارضة. خلال التعاضد، ساء الانتاج ولحق الناس بؤس وأصاب البلاد تراجع ولكن غرور من كان في الحكم أعمى بصره فغدا لا يرى غير رأيه ولا يسمع غير قوله.فشلت اشتراكيّة الدولةولم تحصل تنميّة لأنّ المنهج كانت الدولة مركزه ولأنّ الفرد أزيح من كلّ فعل واعتقلت حرّيّته...بورقيبة «هو القائد في الكفاح. هو الضامن في النجاح» ولا أحد في الأرض سواه. أمّا من خالفه الرأي واختارسبيلا مغايرا فهو مفسد، يصطاد في الماء العكر.يجب أن يفرد. يجب أن يتنحّى...
لمّا فشل التعاضد وخابت نتائجه، غيّر الحكم التوجّه. انقلبعلى نفسه وألغى ما اختار من سياسة ومنهج... مع الهادي نويرة(1970 الى 1980)،أقبر التعاضد وفتحت أبواب السوق وأعطي للخواص حرّيّة وكان قانون أفريل 1972 وتدفّق الاستثمار ونجحت الدولة في الدفع بالشغل وبالنموّ .في سنوات السبعين، عاشت تونس طفرة مميّزة. تطوّر الانتاج وسجّل نموّا بأكثر من 8 بالمائة وازداد دخل الفرد بنحو أربع مرّات وحصل رخاء وتطوّر. مع نويرة ورغم ما أتاه من منهج تحرّريّ، بقيت الدولة هي المشرفة وكانت لها يد في السوق،بيّنة...
لمّا أنهكت الزعيم العلل وأقعدالمرض نويرة، ظهرت في البلاد أطراف مناوئة تسعى. تبتغي الحكم. تفكّكه. كثر التهافت. علا الصخب. تعدّدت الأيدي. تداخلت الغايات والمصالح. ضعف الحكم...عادت الدولة الربّانيّة الى الركح وانتشرت في البلاد شعبويّة. تقرّبا من الشارع وارضاء لهذا الطرف، كانت حكومة مزالي (1980 الى 1986) تنفق بلا حساب. تزيد في الأجور.تعطي الشغلبل شغلا. تغرق البلاد قروضا وفوائض. غدا الحكم في خشية. يده ترتعش. يأخذ القرار وينقضه.يعد ويخلف.كثرت الإضرابات وكانت المواجهات مع الاسلاميين ومع اتحاد الشغل. تبعثر الحكم. اهتزّت أركانه. تراجعت مداخيل الدولة وغدت البلاد في عجز، على حافة افلاس منذر.كان اللجوء الى الصناديق الدوليّة وجاء مخطّط التعديل الهيكلي (1987)... مكره، حرّر الحكم المبادرة وفتح السوق وبيعت عديد الشركات العموميّة فعاد النموّ واستطاعت البلاد تجاوز العقبة...
في العشريّة الأخيرة من حكم بن عليّ، ضعفت الدولة وقد انتشرت في البلاد المحسوبيّة وحطّ يده على السوق من كان من الأصهار، من المقرّبين للسلطة.ضاقت الناس ذرعا بما يجري في البلاد من فساد، من سوء توزيع للثروة، من بطالة مجحفة.شدّ البلاد غضب دفين يسري. خذل الحكم أنصاره من الأمن والجيش. سقط الحكم فجأة. بسرعة... رغم ما كان من فساد في الأعمال ومن محسوبيّة وغور في السوق، كان الاقتصاد التونسيّ سنوات بن عليّ (1987 الى 2011) في نموّ وكانت موازين الدولة معدّلة. لقد مكّن منوال التنميّة المتّبع من تحقيق نتائج مرضيّة وأعطىالبلاد مدّخرات كافيّة وترقيما دوليّا مميّزا...