حديث الأنا: 1 - أيّ منوال للتنمية؟ سعي الفرد هو الأبقى...

في رأي العديد من الأحزاب ومن الناس، فشل منوال التنميّة المتّبع في تونس والدليل ما نرى اليوم من بطالة منتشرة ومن جهات مهمّشة ومن توزيع مختلّ للثروة. لم تحقّق البلاد منذ استقلّت ما كانت تصبو اليه من رفاه ومن تقدّم. لم ينجح منوال التنميّة والعديد اليوم يدعون الى اعادة النظر

في ما اخترنا من منهج وفي ما اتبعنا من خطّة... نحن لم نوفّق. ظلّت تونس، رغم ما كان من جهد ومن نيّة حسنة، بلدا فقيرا، متخلّفا... بعد الثورة، تجلّت الفوارق بين الجهات أكثر وساء الانتاج وتفاقمت العجوزات وغلا العيش. نعم، فشل منوال التنميّة الذي اتبعنا من قبل ومن بعد الثورة وعلينا اليوم اعادة النظر في السبل وفي المنهج... علينا أن نتبيّن أسباب الفشل ولماذا لم نوفّق وكيف الاصلاح والتخطيط لمنوال أنجع... هذا هو الخيط الجامع لستّ مقالات أنشرها تباعا في جريدة «المغرب». ما سأقول هو قراءة معيّنة. هو نظر جاءه ناظر منفرد. له وضع وله نحو وله انتماء محدّد.

قبل النظر في ما كان من تجارب تنميّة، يجب التنبيه، أوّلا، أنّني ليبراليّ التوجّه. نعم، أنا ليبراليّ وأومن أنّ الحرّيّة، فكرا ومعتقدا وفعلا، هي الأصل وهي المرجع. أنا أومن أنّ يد الله مع الفرد وليست مع الجماعة وأنّ العبد لمّا يكدّ ويسعى يكون سعيه أفضل وكدّه أبقى. أنا ليبراليّ وأعتقد أن على الانسان، بما أوتي من قدرة وعقل، أن يحمل نفسه بنفسه وأن يبذل الجهد ويتدبّر في ما يرضى وفي ما يراه صلاحا ونفعا. أنا ليبراليّ ولا أرى خيرا في الدولة، في ما تفعل، في ما تأتي من انجاز، من انماء، من نحو. أنا ليبراليّ وأعتقد أنّ الدولة فاسدة بالطبع وأنّ السياسيين وان جاؤوا من الفلك الأعلى هم بشر، همّهم خدمة أنفسهم وذويهم وحماية ما لهم من مصلحة. ما كانت غاية الدولة خدمة المواطن. ما كانت غاية الدولة حماية الوطن. غاية الدولة أوّلا وأخيرا خدمة نفسها، حماية سلطانها ورزقها. كذلك هو الشأن لدى أهل الأحزاب جميعا والمنظّمات واتحاد الشغل أيضا...

في ما مضى، في كلّ أرض، باع الحكّام البلاد والعباد خدمة لأنفسهم. في ما مضى واليوم وغدا، غاية الدولة الحكم. همّ أهل الحكم والأحزاب المسك بأدوات العنف والتحكّم في الرقاب وفي الرزق... أنا لا أثق في الدولة ولا في الأحزاب ولا في المنظّمة وان صدق أهلها وجاء أصحابها من خيرة الملائكة والانس.

ما كنت في ما مضى ليبراليّا، أبدا. في سنوات الشباب وما بعدها، كنت يساريّا، أحمر. أومن بالاشتراكيّة، بالشيوعيّة، وأعتقد أنّ الدولة هي الأصل والفصل. هي صاحبة الحلّ والعقد. لأنّ الفرد أنانيّ بالطبع وهو نكود، جحود، كنت أرى أن على الدولة أن تتولّى الشؤون جميعا وتوزّع الأرزاق بالعدل وتسوّي بين الناس في الحظّ وفي الكسب. كنت أعتقد راسخا أنّ على الدولة تملّك أدوات الانتاج ولها حقّ النظر والتدخّل في كلّ شأن وأمر. هي صاحبة العنف ولها العزّة والملك. كنت أرى أن من مهامّ الدولة رعاية ضعاف الحال وتعليم النشء وعلاج المرضى وحماية الشغّيلة من رأس المال المتربّص. كنت أرى الدولة ربّا، لها ما في السماوات وما في الأرض، تفعل ما تشاء من خير ومن شرّ...

تغيّر الزمن. تغيّر مع الزمن وضعي وتغيّر مع وضعي نظري وأصبحت مع الأيّام ليبراليّا، شيئا فشيئا. أنا لست ليبراليّا متوحّشا، كما يصفون. أنا ليبراليّ، عقلانيّ، اجتماعي، انسانيّ. أومن أنّ الفرد له الحرّيّة في ما يريد من معتقد، في ما يشاء من فكر، في ما يختار من فعل. أرى أن الفرد أقدر من الجماعة وهو الأولى في تحديد معالمه، في التدبّر، في السعي. كلّ مسّ من حرّية الفرد هو تسلّط وكلّ تمشّ يرتضيه الفرد هو الأبقى. أمّا الدولة فهي عندي أصل كلّ فساد في الأرض وهي سبب المحسوبيّة والخور، وهي دوما مبذّرة، منفقة، سيئة الأداء، رديئة التصرّف. أنا ليبراليّ وأخشى الدولة لمّا يثقل وزنها وينتشر في الأرض ظلّها وتمسك بين أيديها كلّ أداة وشأن. أخشى الدولة المنتفخة وأخاف ما سوف يأتيه أهلها من عبث، من عشوائيّة، من تسلّط...

عندما يصيب الدولة غرور ونرجسيّة، يعتقد أهلها أنّهم سرّة الكون، أنّهم محمّلون برسالة عليا. تعتقد الدولة أنّها الربّ. مكلّفة بمهامّ سماويّة. هي الراعيّة للبلاد، الحاميّة للعباد، الساهرة على عيش الناس، في كلّ يوم، في كلّ شبر. تحسب الدولة أنّها خليفة الله على الأرض ولها العقل الحصيف والنظر السديد والقول الفصل... أنا أخاف الدولة لمّا تعتقد أنّها الحقّ ورأيها هو الأوحد وسبيلها هو الأبقى. أخاف من الحكّام من يعتقد أنّه وليّ أمري وبفضله أكون وبنعمته أحيا. أخشى الناس من لا يساور عقله شكّ ولا يرى غير ظلّه في الأرض ويقول ويؤكّد أنّ له ثوابت محكمة وفكره يقين بيّن، لا شكّ فيه ولا ريبة...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115