هل ينجح اتحاد الشغل في تحويل الأغلبية الاِجتماعية إلى أغلبية سياسية ؟

بقلم: مختار بوبكر

الآن وقد انتهت أشغال المؤتمر الوطني للإتحاد العام التونسي للشغل وأدّت إلى فوز أغلبية منسجمة لقيادة الإتحاد للسنوات الخمس القادمة، قيادة غير مخترقة حزبيا من الائتلاف الحزبي المهيمن على المشهد السياسي، يبدو أننا بصدد بوادر ظهور أغلبية مستقرة من الوسط

مجسدة في الحركة العمالية وقادرة على قيادة البلاد إلى شاطئ الاستقرار الاجتماعي والنمو الاِقتصادي والتحول الديمقراطي الحقيقي - هذه البوادر ليست وليدة اليوم، وليست نتيجة للمؤتمر الأخير، بل هي ثمرة لتراكمات عديدة منها ما هو ضارب في التاريخ البعيد والقريب للمنظمة ومنها ما هو مترتّب على التعقيدات التي ميّزت المشهد السياسي لما بعد الثورة، لن نظيف جديدا حينما نذّكر بأنّ الإتحاد منظمة لها خصوصيات تنفرد بها عن باقي المنظمات النقابية في العالم .. فهي كيان سياسي في المقام الأوّل يمارس السياسة لا كحزب إنما كقوة اِجتماعية وخصوصا عمّالية قادرة على تعبئة شرائح واسعة من الشعب وقادرة على التأثير بصورة مباشرة في الأحداث لا فقط تلك الخاصة بالشأن الاِجتماعي المباشر، إنما أيضا في الشأن السياسي العام بما فيه الجوانب المتعلقة بالقضايا الاِقتصادية الكبرى- هذه المنظمة ذات الخصوصيات التاريخية المتناغمة مع واقع البلاد منذ مطلع القرن العشرين تجد اليوم نفسها وبعد سبع عشريات من التأسيس في قلب الحدث في فترة شبيهة بما عرفته تونس على اثر الإستقلال في منتصف الخمسينات، تجد نفسها مطالبة بتحمل مسؤوليات تتجاوز نظريا بعدها المهني و صبغتها النقابية .. لا أحد قادر اليوم على منع المنظمة من لعب هذا الدور ولا أحد قادر على تقييده وحتى الّذين تجرّؤوا في الفترة اللاحقة للثورة وتطاولوا على الإتحاد بممارسات ومواقف تستبطن التقزيم والإهانة، أرغموا على القبول بالأمر الواقع و تبنّوا سياسة التودد تجاه هذه المنظمة النقابية الفريدة والتي تستمد قوتّها من الداخل الوطني ومن الداخل فقط..

وهكذا لا نستغرب إقحام المنظمة النقابية العمالية من قبل المعهد الجمهوري الدولي -المرتبط بالحزب الجمهوري الأمريكي والمموّل من قبل الحكومة الفيدرالية الأمريكية- ضمن سبر الآراء الأخير والّذي أجراه من 6 إلى 13 ديسمبر 2016 وإذا ما تجاوزنا غرابة إقحام منظمة نقابية في سبر للآراء يهمّ تموقع الأحزاب السياسية وقياس مدى رضاء الجمهور عنها و تطرقنا إلى النتائج فإنّ الاِستغراب سيتعاظم والأسئلة ستتكاثر .. فهذا الاِستطلاع والّذي لا شيء يجعلنا نشكك في حياديته يضعنا أمام مشهد بالرغم من واقعيته فهو صادم للعديد من الأحزاب والأطراف ..

الاتحاد والأحزاب ومزاج التونسيين
سبر الآراء قسّم مواقف الجمهور إلى خمس خانات تتراوح بين الرضا والرضاء التام وعدم الرضاء وعدم الرضاء التام وعدم الإجابة.
الإتحاد العام التونسي للشغل سجّل 24 % من الرضا و25 % من الرضاء التام و6 % من عدم الرضاء و 30 % من عدم الرضاء التام والبقية و هم 15 % فضلوا عدم الإجابة .. مجموعة الرضاء التام التي حاز عليها الاتحاد 25 % جعلته مساويا تقريبا لأحزاب النداء والنهضة وآفاق تونس والوطني الحر مجتمعين، أي أنّ الإتحاد ونواته الصلبة المساوية لـ25 % توازي النواة الصلبة للأحزاب اليمينية الأربعة بما فيها الشق الديني أي النهضة والتي حصلت لوحدها على 7 % فقط في حين حصل النداء على 12 % و الوطني الحر على 4 % وآفاق على 3 % .

وحتى لا نطيل في سرد الأرقام المملة ( يمكنكم مطالعة الجدول صلب هذا المقال ) فإنّ الاتحاد حظي بقبول نصف المستجوبين 49 % بأسبقية 14 نقطة على ملاحقة النداء 35 % وبنسبة الضعف على حركة النهضة بـ25 نقطة أي أنّ النداء يساوي ثلثي الإتحاد في حين لا تساوي النهضة غير النصف.

هذا اللاعب القديم-الجديد في المشهد السياسي والّذي جسمه لنا المعهد الجمهوري الدولي ربّما لأول مرّة يأتي في مؤخرة ترتيب الكيانات السياسية غير المرغوب فيها تماما بنسبة 30 % في حين أنّ النهضة تتحصّل على الضعف 58 % وتليها الجبهة بــ51 % ثمّ النداء بـ44 % ثمّ الوطني الحر 46 % وأخيرا والأكثر حظا والأقرب للإتحاد حركة مشروع تونس 39 % .

هذه الأرقام تعطينا صورة مصغرة على مزاج التونسيين تجاه الأحزاب وخصوصا تجاه الإتحاد العام التونسي للشغل الّذي نال رضاء نصف التونسيين وعدم قبول ثلثهم في حين امتنع 15 % عن الإدلاء بآرائهم...

الاتّحاد العام التونسي للشغل هذه القوة الاجتماعية الضاربة والذي ينظّم العمال بالفكر والساعد في كافة أنحاء البلاد .. في المدن والأرياف .. في المدارس والمعاهد في المصانع والإدارات .. في المرافق العمومية والوحدات الإنتاجية الخاصة والتعاونية .. ويمثل أغلبية اجتماعية لا نزاع فيها .. هذه الأغلبية الاِجتماعية مجسّدة في المنظمة التي أصدرت في غضون أسبوعين أربع بيانات سياسية بكل ما في الكلمة من معنى.. الأوّل يهم الإعلام ووجوب تمكين الإعلاميين من الوصول إلى مصادر المعلومة بكل سهولة وعدم تكبيل الإداريين بواجب التحفظ .. والثاني يهمّ حركة المعتمدين واِنعكاساتها على الاستحقاق الانتخابي الخاص بالتمثيل المحلي والثالث بالأسعار واِنعكاساتها على الطبقات الشعبية والمتوسطة .. أمّا الرابع ولئن كان تلميحا فيشتمّ منه تحفّظ على مواصلة العلاقة مع وزير التربية واضطلاعه بمسؤولية الوزارة.. كل هذا إلى جانب العودة السريعة إلى الكفاح الاِجتماعي في عديد القطاعات وخصوصا العمل الدؤوب على اِنطلاق التفاوض لتحسين شروط تأجير وظروف عمل المستخدمين في القطاع الخاص .. هذا الاِنخراط السياسي غير المسبوق للمنظمة في غضون أسبوعين يبيّن بما لا يدع مجالا للشك أنّ المنظمة هي في المقام الأوّل قوّة سياسية توجه اِهتمامها إلى كل ما يهم الشعب التونسي ، أو هي كما ذكر مؤخرا أحد الأصدقاء العارفين بالشأن النقابي الداخلي في شهادة نشرت بمجلة «الفكرية» حزب سياسي في ثوب نقابة ..

القيادة الجديدة للاتحاد والخيارات المحدودة
هذا الأمر ليس بغريب .. فالمؤتمر الأخير للمنظمة تمخض على نتيجة جعلتها في قلب العمل السياسي الحقيقي وأعادت المشروع العمّالي الّذي راود النقابيين على مدى عشريات إلى الواجهة، فقيادة الإتحاد المنتخبة وكما أشرنا سابقا غير مخترقة من الائتلاف الحاكم ومحصّنة ضد أخطار التوظيف السياسي ويبدو أنها متناغمة إلى حد بعيد مع المرجعية التقدّمية التنويرية التي حكمت أفق الاتحاد الفكري والسياسي منذ تأسيسه. قيادة المنظمة تواجه وضعا سياسيا خطيرا يتميّز باِنخرام تام في المشهد السياسي لفائدة حزب سياسي لا يكنّ للمنظمة مشاعر الود، ويسعى طورا علنا و طورا سرا إلى تحجيم دورها ولا يتقاطع برنامجه السياسي ولا مرجعيته الفكرية مع المرجعية النقابية، زد على ذلك فإنّ جرعة التوازن في المشهد السياسي والتي ترتّبت على انتخابات أكتوبر 2014 اندثرت أو تكاد بسبب التحالف بين الحزبين الفائزين الأوّل والثاني «النداء والنهضة»، هذا بالإضافة إلى تشظي حزب نداء تونس وانقسامه إلى عشائر، وكل الدلائل تشير إلى أنّ أمل إنقاذه قبل 2019 يكاد يكون منعدما .. وهكذا فإنّ كل الأبواب مشرّعة على مصراعيها لعودة التغوّل ولعودة هيمنة حزب لا تشكل نواته الصلبة إلاّ 7 بالمائة من المجتمع .. ويحمل مشروعا مجتمعيا مهما اِجتهد في تقريبه من مزاج التونسيين فلن يفلح اعتبارا لمنطلقاته الإخوانية وعدم تماهيه مع نمط حياة التونسي ومع الواقع اليومي للتونسيين ..

أمام هذا المأزق فإنّ القيادات النقابية العمالية لا تملك التحرّك في هامش واسع، ولا تتمتّع بخيارات متعددة. أمامها خياران لا ثالث لهما، أمّا التهميش والبقاء في موقع رد الفعل واحتمال الدخول في قطيعة مع شرائح واسعة من المجتمع تبحث عن الاِستقرار مهما كان الثمن، أو التنظّم ضمن المشروع التاريخي للحركة العمّالية التي كانت الخيمة الكبرى التي يستظل بها الاتحاد في سنواته الأولى، والتي حوّلته إلى هذه القلعة الصمّاء التي نعرفها، وإلى هذه القاطرة المحتملة للمشروع المستقبلي التونسي الوريث حقا للحركة الإصلاحية التونسية، فشتان بين دور القاطرة ودور «الاتحاد قوة اقتراح « ، هذا الشعار الأجوف الّذي لا يقدم الجواب على الجهة التي سيقترح عليها الاتحاد الحلول. وما نتمناه لقيادة الاتحاد أن لا تكون هذه الجهة في قادم الأيام تلك التي وضعت القمامة أمام مقرّات منظمتهم ..

إذا كان المشهد السياسي يتميّز بالمأزق الّذي نعرف فإنّ الحركة النقابية بدورها في مأزق أكبر .. فالأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد و شح الموارد والتداين المفرط، والنفور العام من العمل، والإنتاج، لا يتيح لها تحقيق نتائج باهرة عبر المطلبية ، ولا يتيح لها خصوصا دور الحكم إذا ما بالغت في لعب دور المحايد، فقواعدها يمكن أن تنقلب عليها وأن تختار الانحياز إلى مصالحها أوّلا في مجتمع باتت تطغى عليه روح الانتصار للمهنة مثلما عايشنا ذلك خلال المصادقة على قانون المالية للسنة الجارية.

هذه الصورة التي حاولنا تفكيكها تدفع الإتحاد اليوم إلى الكشف عن ثوبه الحقيقي .. ثوب القوة السياسية الفاعلة في المشهد .. ثوب المنظّمة المعنيّة بمصير البلاد والعباد، ثوب من هو مستعد ليلعب دوره كاملا ...

والاتحاد أمام امتحان كبير فهو مطالب تاريخيا بأن يحوّل الأغلبية الاجتماعية التي تسنده و تدعمه إلى قوة سياسية .. وهو المطالب أمام امتحان الانتخابات البلدية والجهوية القادمة، ببناء الحركة العمالية حتى تواجه بكل اقتدار وشجاعة هذا الموعد الانتخابي الحاسم في تاريخ تونس والّذي سيرسم الملامح الأساسية لصورتها ونمط مجتمعها، خصوصا وأنّ الجبهة الاجتماعية الديمقراطية والتقدمية تعاني من التشرذم والانقسامات من منطلقات زعامتية فارغة ونتيجة لإقدام البعض على بناء تحالفات خاطئة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115