وأصبح هذا الكتاب منذ صدوره ظاهرة عالمية إذ تمت ترجمته إلى عديد اللغات ليصبح احد أهم المبيعات على المستوى العالمي.
وقد حاول عديد النقّاد فهم وتفسير ظاهرة غزارة الإنتاج في الدراسات التاريخية وأسباب نجاحها عند القرّاء لا فقط في بلد معين بل على المستوى العالمي ويمكن تفسير هذه الظاهرة الفكرية بعديد الأسباب ومن أهمها في رأيي الوضع الذي نمر به اليوم والضبابية وعدم الوضوح مما يدفع المسؤولين والمثقفين وكذلك النّاس العاديين للعودة للتاريخ لمحاولة إيجاد الإجابة عن الأوضاع التي نعيشها اليوم.
كما يمكن لنا كذلك أن نضيف أنّ عمق التحولات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية تفسر هذا الاهتمام بالتاريخ وبصفة خاصة مراحل التحولات الكبرى والثورات الهامّة لفهم وقراءة انعكاساتها.
وقد اهتممت بكل هاته الإصدارات في ميدان الدراسات التاريخية وطالعت بعضها والذي وجدت فيه الكثير من الإفادة والتشويق. والذي آثار انتباهي في اغلب الدراسات والإصدارات هو انتماؤها إلى تيار فكري في الدراسات التاريخية ظهر مؤخرا ويعرف باسم Histoire Globale أو Global history وما حاولت ترجمته تحت عنوان التاريخ الشّامل- وقد انطلق هذا الاتجاه الفكري في الدراسات التاريخية في الولايات المتحدة الأمريكية في تسعينات القرن الماضي قبل أن يعرف تطورا كبيرا في عديد البلدان الأخرى والقارات ليصبح احد أهم الاتجاهات في دراسة التاريخ الإنساني.
ويهدف هذا الاتجاه الفكري إلى الأخذ بعين الاعتبار الدراسات التاريخية الماضي المشترك للإنسانية وربط كل المراحل التاريخية الوطنية والحكايات الوطنية لبناء نظرة أكثر شمولية للتاريخ الإنساني ولفهم تعارضات ونقاط التقاء مختلف القراءات والحكايات التاريخية.
إذن نحن بصدد قراءة معولمة للتاريخ الإنساني تأخذ بعين الاعتبار العلاقات بين الحضارات وتختلف مع الدراسات والقراءات التاريخية التي تعطي الأولوية للتاريخ الوطني أو المسارات التاريخية داخل الحدود الوطنية.
وتكتسي هذه المنهجية الجديدة وتيارات التاريخ الشامل قطيعة ابستمولوجية جذرية مع المدارس والرؤى التقليدية التي هيمنت على دراسة التاريخ منذ قرون. وقد تميزت المدارس التقليدية السائدة بمركزية التاريخ الأوروبي في فهم وقراءة التاريخ الإنساني.وقد اعتقد المؤرخون الأوروبيون لقرون طويلة بكثير من الصلف والكبرياء أنّ معرفة تاريخهم وثقافتهم كافية لوحدها لفهم ديناميكية العالم وحركة التاريخ الإنساني وكان من نتائج هذه النظرة وهيمنتها هي نفي الآخر ورفض حضوره وتصوراته إلى عديد الأحداث التاريخية وقد أعطى المؤرخون الجدد عديد الأمثلة التي تشير إلى الاختلافات الجوهرية والأساسية في قراءة هذه الأحداث . ومن ضمن هذه الأمثلة يمكن أن نشير إلى ما يسميه الأوروبيون حملة بونابرت إلى مصر والتي تشير أغلب المؤلفات التاريخية إلى أنّ أهدافها كانت علمية وساهمت في فتح المنطقة العربية والتي لم تعرف الأنوار والثورات الاوروربية على مبادئ الحداثة والإصلاحات السياسية الكبرى.
إلاّ أنّ المراجع المصرية تشير إلى جوانب أخرى وتؤكّد على مطامع التوسع الاستعماري الني كانت وراء هذه الحملة وكل الحملات الاستعمارية للبلدان الأوروبية في القرن التاسع عشر والتي أدّت إلى تكوين إمبراطوريه استعمارية وحرمان شعوب الجنوب من حق تقرير مصيرها
إنّ تيارات التاريخ الشامل أو L’histoire globale تسعى إلى القطع مع المركزية الأوروبية في قراءة تاريخ العالم وتعمل على تقديم فكرة جديدة على التاريخ الإنساني تعتمد على التنوع والتعدد ولا تنحصر في التاريخ أو وجهة النظر الأوروبية التي هيمنت على الدراسات التاريخية لفترات طويلة. وهذه الكتب والإصدارات الجديدة تنتصر في أغلبها إلى هذه النظرة الجديدة في قراءة التاريخ الإنساني لتبرر تنوّعه و تحدّ وتقطع مع الصلف والكبرياء الفكري والسياسي الأوروبي الذي لا يرى العالم والآخر إلا من خلال حركته وديناميكيته التاريخية والسياسية.
ولفهم بروز هذا التيار الجديد وتطورها لابدّ من الإشارة إلى بعض العوامل التي ساهمت في تراجع التيارات والمناهج التاريخية القديمة والبالية . وأوّل هذه الأسباب هو واقع العولمة الذي نعيشه اليوم وبروز عديد البلدان الصاعدة اليوم كالصين والهند وعديد البلدان الآخرى في أمريكا اللاتينية ومن ضمنها البرازيل والأرجنتين .ويصعب على النظريات التاريخية السائدة والتي تؤكدّ أنّ هذه البلدان كانت تعيش في عصر الظلمات منذ الثورات الأوروبية وعصر الأنوار فهم وتفسير هذا الصعود الفجئي لهذه البلدان ومقابل هذا الفشل فإنّ تيارات التاريخ الشّامل بعودتها للتاريخ القديم وخاصة فترات ازدهار الحضارات الصينية والأسيوية بصفة عامة تمكنّنا من فهم فترات التراجع والانكسار التي عرفتها وأسباب بزوغها وعودتها إلى صدارة الأحداث في أيامنا.
أمّا السبب الأخر الذي يفسّر ظهور هذه الاتجاهات الجديدة فهو النقد الذي تعرضت له التيارات التقليدية والذي ساهمت من خلال تأكيدها على علوّ الذات والأنا الأوروبي في ظهور وتدعيم الحركات الشوفينية. فقد غذّت هذه القراءات فكرة تضخم الأنا الأوروبي أمام الأخر باعتبار أن التاريخ الإنساني يبدأ بالأنوار وبروز مشروع الحداثة الأوروبي ويصير التقدم مرتبطا بقدرة الآخر على الاقتراب من هذا المشروع والانخراط فيه وبالتالي ينفي عنه كل إمكانيات تحويله وتطويعه لظروفه ومصالحه -وهنا تفقد الدراسات التاريخية جانبها العلمي لتصبح جزءا من مشروع هيمنة الإنسان الأبيض على الآخر.
كما قلت فأنّ بروز هذه التيارات الجديدة في الدراسات التاريخية أنتج العديد من الكتب في الأشهر والأسابيع الأخيرة. وقد وجدت متعة في قراءة البعض منها وشغفا كبيرا باعتبار ثرائها وعمقها. وتمكنّنا هذه الكتب من القيام برحلة شيقة في التاريخ الإنساني لفهم ولاستحضار أهمّ مراحله.كما أنّ هذه القراءات تدحض فكرة هيمنة الأنا الأوروبي وتؤكّد هذا التوق المشترك للذّات الإنسانية لنفس مبادئ الحرية والتعدد والعيش المشترك.
وقد اخترت الوقوف على ثلاثة مؤلفات مهمّة صدرت الأسابيع الأخيرة –الكتاب الأول الذي أشرت إليه في بداية هذا المقال هو بعنوان -une bréve histoire de l’humanité للمؤرخ Yuval Noah Harari وهو عبارة عن رحلة شيقة في تاريخ الإنسانية الطويل . وقد صدر هذا الكتاب في نسخته الانقليزية سنة 2012 ثمّ لتقع ترجمته إلى عديد اللغات الأخرى ومن ضمنها اللغة الفرنسية ليصبح أحد أكثر الكتب مبيعا على المستوى العالمي. وقد اعتمد الكاتب في قراءة هذا التاريخ على التقاء وترابط ثلاث ثورات وهي الثورة المعرفية والثورة العلمية والثورة الاقتصادية وبصفة خاصة الفلاحية في المراحل الأولى من تطور الإنسانية لقراءة هذا التطور التاريخي الهامّ والذي انطلق من الفترة التي كان فيها الإنسان أحد الحيوانات التي أثثت العالم في القرون الغابرة ليرصد تميزه و تطوره عبر العصور في مختلف القارات والحضارات إلى أن يصل إلى وضعه الحالي.
الكتاب الثاني هو للصحفي والكاتب الفرنسيFrancois Reynaert وهو بعنوان La grande histoire du monde والصادر عن دار النشر الفرنسية fayard في موفى سنة 2016.
وهو كذلك عبارة عن رحلة في تاريخ الإنسانية بأسلوب سلس وشيق تزور بنا كل أنحاء العالم في كل المراحل التاريخية تتعرف فيها على الحضارات الأسيوية القديمة والحضارات في أمريكا اللاتينية وعن هارون الرشيد وصعود الإمبراطورية الإسلامية إلى النهضة الأوروبية ووصولا إلى القرن العشرين. ويرينا المؤلف في كل المراحل التاريخية التعدد الكبير والتنوع الذّي عرفته الإنسانية في هذه المراحل التاريخية ومحاولاتها المتواصلة بالرغم من الهزات والأزمات وحتّى الحروب والمآسي بناء رابط مشترك.
أمّا الكتاب الثالث فقد صدر منذ أيّام تحت عنوان Histoire mondiale de la France عن دار النشر الفرنسية seuil وهو عبارة عن مؤلفّ جماعي أداره المؤرخ الفرنسي Patrick Boucheron ويضم قرابة 146 مقالة شارك في كتابتها 122 من أهم مؤرخي فرنسا. ونقطة انطلاق هذا الكتاب هي أنّ التاريخ الفرنسي لا بمكن كتابته بمعزل عن العالم باعتبار أن فرنسا بكتابها وفلاسفتها وأدبائها وفكرها وعلمها وكذلك مطامعها الاستعمارية قد أثرت في العالم . كما أنّ العالم أثر كثيرا في فرنسا وفي تاريخها.
وبعد هذه الملاحظات المنهجية ينطلق الكتاب في رحلة شيقّة وجديدة في تاريخ فرنسا منذ العصور القديمة مرورا بالحروب الصليبية إلى الحملة على مصر إلى الحروب والسيطرة الاستعمارية إلى وصول العمّال المهاجرين اثر الحرب العالمية الأولى إلى ظهور الشوفينية وحركات أقصى اليمين في الظروف الحالية.
إنّ هذا المنحى المنهجي والانخراط في التاريخ الشامل يقدمان قراءة جديدة لتاريخ فرنسا تبرز مدى انخراطه وتأثيره وتأثره بالآخر. والقراءة المتانية لهذا الكتاب الضخم تبين مدى عجز الكتابة التاريخية المرتكزة والموجهّة للذّات عن فهم هذه العلاقة الحميمة وفي بعض الأحيان المهتزة وقدرتها على التأثير في تاريخنا ومواقفنا ومشاريعنا وبرامجنا.
إن الثلاثة كتب التي أشرت إليها في هذه المقالة هي جزء من إنتاج غزير وهامّ ومشوّق جادت به علينا الدراسات التاريخية في السنوات والأشهر الأخيرة أحد أهمّ ميادين العلوم الإنسانية إبداعا وخلقا ولئن ساهمت هذه الإصدارات في إعانتنا على فهم التحولات الكبرى التي يمر بها عالمنا وأثرتنا في قراءتنا وتحليلنا لهذه التحديات والمخاطر الكبرى فإنّها وبانخراطها في مدرسة التاريخ الشامل توجّه نقدا هامّا وتدك أسس المركزية الأوروبية وعلوّ الأنا الأوروبي لتفتح أفاقنا على عالم جديد ثريّ بتنوعه واختلافاته ويسعى بالرغّم من التحديات وفي بعض الأحيان المآسي إلى بناء رابط عيش مشترك وصياغة حلم ومشروع سياسي يحمينا من صعود برامج رفض الآخر ويجعل من احترام الآخر أساس الأمل في غد أفضل.