قهوة الأحد: 1917 : السنة الثورية التي غيرت مصير العالـم

يمر اليوم قرن على سنة هامة في التاريخ المعاصر إلا وهي سنة 1917 – ولكن لم يبق في الذاكرة الجماعية من هذه السنة إلا الثورة الروسية ثم الثورة البلشفية فان هذه السنة كانت محورية في تقديري في التاريخ المعاصر وتمثل النهاية الحقيقية للقرن التاسع عشر ببرامجه السياسية

ورؤاه وتحالفاته وموازين قواه السياسية والاجتماعية.كما أن هذه السنة ستكون بداية الإرهاصات الأولى للقرن العشرين كذلك بآلامه وأحلامه وتوازناته الجيوستراتيجية والسياسية-
إذن 2017 ستكون نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة في التاريخ المعاصر- وكما ستكون هذه السنة نقطة النهاية للعالم القديم أو عالم القرن التاسع عشر ونقطة انطلاق لعالم جديد وإعادة مشروع الحداثة في ثوب جديد.
واهتمامي اليوم في هذه المقالة بسنة 2017 لا يعدّ فقط استعادة للتاريخ واعتبارها محورية في إنتاج عالم جديد بل كذلك لأوجه التشابه الكبيرة بينها وبين السنة التي انطلقت منذ أيام أي سنة 1917 – وهنا يطرح السؤال نفسه : هل يعيد التاريخ إنتاج نفسه بعد قرن كامل؟

لنعد في البداية إلى سنة 1917 لنستقرئ أهم تطوراتها وإحداثها – ولعل الحدث الأول والأساسي هو التطور الذي ستشهده الحرب العالمية الأولى – وقد انطلقت هذه الحرب سنة 1914 بين تحالفين هامين : قوات الحلفاء أو الوفاق الثلاثي الذي يضم المملكة المتحدة وفرنسا والإمبراطورية الروسية من جهة ودول المركز من جهة أخرى وتضم الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية والتي التحقت بهما وساندتهما الدولة العثمانية- وكان التوسع الاستعماري والهيمنة على أوروبا احد أهم أسباب اندلاع هذه الحرب. وقد كان في تقدير وتقييم القوى المتصارعة أن هذه الحرب لن تدوم طويلا وستنتهي سريعا بانتصار احدهما وأنها ستساهم في حسم الصراعات ومحاولة كل شق فرض سيطرته وهيمنته على عديد المناطق في القارة الأوروبية.

وقد نجحت القوى المتصارعة كذلك في تعبئة شعوبها وتحريك المشاعر الشوفينية والأحاسيس الوطنية وخلق نوع من الوحدة المقدسة من اجل حماية والدفاع عن الراية الوطنية. وتم تهميش القوى المنادية بالسلام والرافضة للحرب- وكانت هذه الوحدة ضرورية لتجييش عدد كبير من المواطنين في إحدى أحلك الحروب وأكثرها ضراوة ووحشية في القارة الأوروبية.

إذ أن تخمينات وتحاليل كل الخبراء كانت خاطئة. فبعد أكثر من سنتين ونصف في حرب وصراع وحشي فان الغلبة لم تتجه لأي قوة من القوى المتصارعة بل حافظ ميزان القوى على استقراره- وقد زاد هذا التوازن وغياب الغلبة لأي من القوى من حدة الحرب وزادت في اشتعال اتونها. فدفعت القوى بمزيد من الجنود إلى المواجهات في ظروف مأساوية. وستشهد هذه الحرب احتداد القتل والعنف والهمجية وستكون من نتائجها موت أكثر من 9 ملايين مقاتل وملايين من الجرحى والمعاقين.

إلا أن هذه الحرب ستكون وراء حالة كبيرة من اليأس وفقدان الأمل في المستقبل- كما ستكون على المستوى الفكري نقطة تحول كبيرة وفقدان الثقة في المشروع الحداثي الأوروبي والذي وضع أولوياته تحرير الإنسان من هيمنة الدين وبناء المجتمعات الديمقراطية التي تضمن له الحرية والعدالة.

هكذا سيفقد المشروع الأوروبي مصداقيته أمام ويلات الحرب –وسيطرح أسئلة كبيرة على المفكرين والفلاسفة حول الجوانب المظلمة في هذا المشروع وقدرة الإنسان على الانصياع لرغباته في الطغيان واستعباد الآخر وبسط هيمنته عليه وسيطرته ولو كان الثمن ملايين الضحايا والماسي والآلام.

لقد ساهمت مآسي الحرب وأهوالها وحالة اليأس والخوف وتراجع الثقة والأمل في المستقبل في نسف التحالف المقدس حول الحرب. فعرفت الحركات السلمية والمطالبة بنهاية الحرب تطورا كبيرا في اغلب البلدان الاوروربية المتصارعة كما شهدت اغلب هذه البلدان عديد الإضرابات التي نظمتها النقابات العمالية للمطالبة بوضع حدّ لهذه المأساة. كما نظمت كذلك الأحزاب اليسارية العديد من المظاهرات والتحركات لإيقاف هذه المجزرة.

إلا أن هذا التمرّد على الحرب سيتحول في روسيا إلى ثورة . فقد عرف الجيش الروسي- والذي لم تكن له نفس القدرة التقنية والعسكرية التي كان يتمتع بها الجيش الألماني خسائر كبيرة في الأرواح إلى حدّ أن العديد من المؤرخين أشار إلى أن هذا الجيش عرف مذبحة كبيرة في هذه الحرب. وقد عرف هذا الجيش العديد من محاولات الهروب والفرار وأصبحت قواته رافضة للذهاب إلى هذه المجزرة.

وقد عرفت روسيا في هذه الفترة أزمة اقتصادية فائقة وتزايد المجاعات بسب الأزمة الزراعية وغياب المواد الغذائية في الأسواق- وفي هذا الجو المشحون ستنطلق الثورة الروسية في 23 فيفري 1917 اثر إضراب عاملات مصنع النسيج بالعاصمة بيتروقراد مطالبات بالخبز. وبالرغم من تصدي الآلة القمعية والبوليس لهذه المظاهرة ستمتد رقعة المظاهرات والانتفاضة الشعبية لتنتهي بتخلي القيصر عن السلطة في مارس 1917. ولكن الثورة لن تنتهي عند هذا الحدّ بل ستواصل العناصر الأكثر راديكالية بقيادة لينين و الحزب البلشفي العملية الثورية لتنتهي بوصولهم إلى السلطة في أكتوبر 1917.

وستشكل هذه الثورة حدثا سياسيا هامّا باعتبارها ستؤسس لنظام سياسي جديد سيمثل بديلا لازمة النظام الرأسمالي ومواصلة لبرنامج تحرير الإنسان وبناء الديمقراطية و إعادة صياغة برنامج الحداثة الأوروبي واعتبار أن جوهر غربة الإنسان يكمن في الاستغلال وعدم ملكيته لوسائل الإنتاج ونتائج العملية الإنتاجية. وبالتالي ستكون التجربة السوفياتية وراء مسار جديد وفهم جديد للمشروع الأوروبي سيصبح نهاية الاستغلال حجر الأساس لبرنامج تحرير الإنسان والحداثة والتقدم.

أما التطور المهم الثاني الذي سيعرفه العالم هذه السنة فيكمن في بروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة جديدة ستحكم العالم وستتجاوز القوى الأوروبية – وستبدأ هذه الهيمنة الجديدة مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية للحرب اثر تزايد الاستفزازات والاعتداءات الألمانية والتي ظنت انه مع الثورة الروسية وانسحاب روسيا من الحرب وبعد الولايات المتحدة الأمريكية ومحدودية قواها العسكرية في تلك الفترة ستتمكن من تحقيق نصر ساحق على عدويها فرنسا وبريطانيا.
إلا أن دخول الولايات المتحدة الأمريكية ستكون له نتائج أساسية على عديد المستويات –المستوى الأول هو الحرب فدخول الولايات المتحدة سيرجح كفة الحلفاء لتنتهي الحرب في 1918 بهزيمة دول المركز ونهاية الإمبراطورية الألمانية والنمساوية- المستوى الثاني

يخص خروج الولايات المتحدة مع الرئيس ويلسون من عزلتها ودخولها خضم الصراعات العالمية ليكون هذا الانخراط في القضايا الدولية بداية لهيمنتها على العالم.

المستوى الثالث يهم إعادة تأسيس المشروع الحداثي الأوروبي إثر أزمته مع الحرب العالمية الأولى. وستكون الديمقراطية الأمريكية هي الخيار الذي سينتهجه برنامج الحداثة وتحرير الإنسان- وسيركز هذا المشروع على الحرية الديمقراطية للفرد وتحقيق حاجياته من خلال نظام إنتاج رأسمالي .ستبدأ من أمريكا ليصبح مثالا في التوزيع لنتائج العملية الاقتصادية .والاهم أن الديمقراطية الأمريكية ستشكل البرنامج والمشروع الغريم والمضاد لبرنامج السوفيات في إعادة صياغة برنامج الحداثة الأوروبي. ومع نهاية هذه الحرب سيكون للعالم مشروع متضاد في إعادة صياغة وتأسيس الحداثة وبرنامج تحرير الإنسان : البرنامج الاشتراكي والذي يرى أن تحرير الإنسان يمّر بنهاية الاستغلال والملكية المشتركة لوسائل الإنتاج والبرنامج الديمقراطي في صياغته الأمريكية والذي يرى أن تحرير طاقات الإنسان وإعطاءه كل الإمكانيات لتحقيق برامجه ومن ضمنها حقه في الثورة كفيلة بتحريره من القوى الغيبية وقوى الردّة.

التطور الثالث والمهم والذي ستعرفه سنة 1917 يخصّ تآكل الإمبراطورية العثمانية حليفة ألمانيا في هذه الحرب وستبدأ القوى الاستعمارية في تقسيم إرث الإمبراطورية هذا العجوز المريض الذي لم يعد قادرا على حماية والحفاظ على مناطق هيمنته وسيطرته- وستبدأ عملية التقسيم سنة 1916 مع اتفاق سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا الذي سيتم بمقتضاه تقسيم وتوزيع مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط بين القوتين الاستعماريتين . وستواصل هاتان القوتان في هرسلة الإمبراطورية العثمانية من خلال دعمها للثورة العربية في شبه الجزيرة العربية والتي ساهم فيها لورنس العرب.

أما مسالة الأساسية الأخرى التي تعرفها المنطقة في هذه السنة فهي وعد بلفور بخلق وطن قومي لليهود في فلسطين والذي سيكون نقطة الانطلاق لنفق وانتهاك الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

ولن تكون التطورات الفكرية والسياسية هي التطورات الوحيدة التي سيشهدها العالم هذه السنة فستعرف سنة 1917 بدية التحركات النسوية مع إضرابات العاملات في فرنسا والتي ستكون نقطة انطلاق هامّة لكل التحركات النسوية في فرنسا وفي العالم.
كما ستعرف هذه السنة ثورة فنية كبيرة وظهور اتجاهات فنية جديدة ستدخل حركية جديدة في مجال الإبداع الفني .ونذكر من الفنانين والرسامين الذين سيبروزون في هذه السنة الرسام الألماني OTTO DIX والذي ندد في رسومه بأهوال ومأسي الحرب العالمية الأولى.كما نذكر كذلك الرسام الروسي الأصل Marc chagall والذي سيعود إلى روسيا اثر انتصار الثورة ليتحمل مسؤولية كبيرة في الدولة الناشئة في تطوير الفنّ. كما نذكر كذلك Marcel Duchamp والذي سيثير كثيرا السخط بسبب البعض من أعماله الفنية – كما يمكن الإشارة إلى رسامين آخرينPablo Picasso و FernaNd Leger والذين سيلعبون دورا مركزيا في الثورات الفنية التي سيعرفها العالم خلال القرن العشرين.

كما يمكن لنا الإشارة إلى التطور الكبير الذي سيعرفه علم النفس خلال هذه السنة من خلال أعمال bergson و FREUD كذلك لابدّ من الإشارة إلى PROUST في ميدان الرواية وأعماله الهامة خلال هذه السنة.

إذن تشكل سنة 1917 سنة محورية ومركزية في التاريخ المعاصر. لقد كانت سنة نهاية العالم ومخاض عالم جديد مختلف ومغاير عن عالم القرن التاسع عشر. ولعل أهم تطور ستعرفه هذه السنة يخصّ أزمة مشروع الحداثة الأوروبية ونهايته المدوية في هذه الحرب العالمية حيث تكسرت آمال الحرية على مذبحة الحرب الشوفينية مما ادخل شكّا كبيرا في قدرة الإنسان على صياغة برنامج التحرير نفسه من الظلمات إلا انه وبالرغم من الألم والخوف وغياب الأفق الواضح فقد تمكنت النخب من إعادة تأسيس هذا المشروع من خلال برنامجين : البرنامج الاشتراكي والبرنامج الديمقراطي في قراءته الأمريكية وسيشكل هذان البرنامجان أفق الحلم الإنساني في التحرر والانعتاق خلال القرن العشرين.

وفي رأيي فان التحديات التي يشهدها العالم تشبه إلى حد كبير المخاطر والتحديات التي عرفها منذ قرن. إذ نشهد اليوم انغلاق ونهاية العولمة والتي شكلت محاولة إعادة تأسيس المشروع الحداثي في جانبيه السياسي من خلال تركيزه على الحرية و الديمقراطية وجانبه الاقتصادي من خلال وضع حرية السوق في أولى أولوياتها – إلا أن فشل او صعوبات هذا المشروع من خلال الأزمات الاقتصادية المتتالية وصعود الفوارق الاجتماعية فتح فترة جديدة من الخوف والقلق والحيرة أمام المستقبل . وهذا القلق وانسداد الأفق وتراجع الثقة في المستقبل كانت وراء صعود القوى الشوفينية والفاشية في عديد البلدان الديمقراطية وهذه القوى قادرة على قيادة العالم نحو الفناء كما بينت ذلك تجربة اوروبا اثر 1917.

وهذه المخاوف والتحديات تطرح مسؤولية كبيرة على النخب السياسية والفكرية والفنية – وتكمن هذه المسؤولية في إعادة صياغة البرنامج الإنساني في التحرر والانعتاق – وهذه الصياغة وإعادة التأسيس لابد لها أن تأخذ بعين الاعتبار وتسمع أصوات المهمشين وتحمل آمالهم في الحرية والعدالة والكرامة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115