قد يقيم المؤرخون بعد عقود مدي فعل هذه المعركة على ذاكرة الثورة وحقوق شهدائها في الأبدية بعد أن حرروا شعبا من شعوب الشرق من الإستبداد ووضعوه على مدار الكونية رغم أنف الإستشراق الإستعماري.
ما يطفو على السطح في ذكرى هذا العام هو إتساع دائرة القلق لدى التونسيين رغم حماستهم في الإفتخار بالحرية التي إنتزعوها قد تبدو غريبة هذه العلاقة المفارقة التي تجعل من الحرية قلقة متوجّسة رغم أنها في الجوهر قيمة محررة للإنسان جسدا وروحا من المخاوف والقابلية للخضوع .و إكتشافا إراديا لذاته المغيبة.
ليس من السهل الخوض سريعا في هذه المفارقة التي ستستمر لسنوات هي سنوات المواجهات القادمة بين فاعلىة التقدم نحو العيش الكريم وقوى السكون و الردة والأنانية نكتفي هذه المرة بالوقوف إذن على تجليات و دوافع ثلاثة جعلت من هذا الزوج حرية ّ/ قلق وحدة مفهومية وحالة مدركة ومعيشة لشرائح واسعة من التونسيين.
الخوف من الآخر
وحدة الحشد التي خرجت ضد الإستبداد تماسكت وحافظت على تدفقها على إمتداد أيام التحركات الشعبية لم تنتبه لإختلافاتها وتنوعها بل رأت فيها تعزيزا لقوتها ولشعارها '' الشعب يريد إسقاط النظام '' السقوط الفعلى لهذا النظام الذي وحّدهم في إرادة التمرد جعلهم يكتشفون صعوبة بناء مقومات العيش المشترك في مجتمع حر وفي ظل نظام سياسي حر . معركة الإنتخابات و الدستور وطبيعة الدولة و النظام السياسي الذي نريد جعلت من معركة العقد الإجتماعي الجديد عسيرة ودامية في منعطافتها الحاسمة بعد أن إرتفع منسوب العنف و تلاحقت جريمتا الإغتيال السياسي لتصفية الشهيدين شكري بلعيد و محمد براهمي كقياديين تموقعا بوضوح وشجاعة في الصراع ضد مشروع الدولة الدينية وفي الدفاع عن رصيد الدولة الوطنية الحديثة ومكتسباتها تطلعا إلى جمهورية ديمقراطية إجتماعية .وإستهداف الإرهاب للأمنيين والعسكرين ثم للإقتصاد و المؤسسات .
مربط فرس هذه المعركة كان عماد العقد الإجتماعي الجديد ومشروعية سيادة الدولة هل هي الإرادة العامة أي الشعب؟ أم هي المقدس الديني الذي يؤدي في نهاية التحليل إلى دولة دينية مستبدة بالضرورة ؟ إنفرط عقد الحشد الموحد ضد الدولة الساقطة بسبب التباين حول ماهية الدولة الجديدة .. دستور الجمهورية الثانية في بنوده وروحه نص على دولة مدنية وحريات فردية وقبول بالتعددية وهو مع ذلك لم ينزع القلق ولم يبن العماد الثاني للعقد الإجتماعي وهو القبول الأخلاقي بالعيش معا .أي الإعتراف بالغير أن يكون غيرا إعترافا صادقا
نابعا من ضمير تونسي مؤنسن
خوف مروّع ما زال يقسم الحداثيين و الإسلاميين حتي وإن تظاهروا بقبول الآخر بل وتحالفوا لإدارة شؤون الدولة و الحكم مردّه إرث الماضي و عقبة الإيديولوجيا و رفض التواصل بل تبادل مشترك للإحتقار و إستخفاف بذكاء الآخر و التهجم على إنعدام هذا التواصل بين المحافظين و الليبراليين أجل إنتشار ثقافة شعبية واسعة تؤمن بالمواطنة والحرية وما يؤجج هذا الخوف المتبادل اليوم ويجعل من الحرية قلقة هي إرادة إخلاء الفضاء العمومي من الآخر لدي المدافعين عن لائكية حادة وإقصائية ولدى إسلاميين يؤمنون بالعنف منهجا أو واجبا شرعيا .أو تذرّعا بالتوافق الضروري بين العلمانيين والإسلاميين. مناخات التهديد الإرهابي الجدي للسلم الأهلي ولمقومات الدولة .. تزيد من حدة القلق وقد تدفع البعض إلى كراهية الديمقراطية .أو تجعلهم ينكفئون على أنفسهم ويتخلون عن المطالبة بالحرية السياسية كحرية عمومية
الحرية مقولة جوفاء
المصدر الثاني للقلق الذي سكن قطاعات شعبية واسعة هو الطابع المجرد للحرية فهي حق اجوف لا ينعكس على حياتهم اليومية وعلى مرافق عيشهم الصحية و التعلىمية و الخدمية والعمومية . عجز دولة مابعد الإستبداد المزدوج على أن تبدو أكثر أخلاقية إزاء مواطنيها وأكثر إنصاتا لهمومهم و تملكا لإرادة تنمية و تطوير عادلين صار مبعث غضب شعبي نجد صداه في أوساط الشغالين ضحايا إرتفاع كلفة العيش والحيف الجبائي وتفكيك منظومة الحماية الإجتماعية ونجد صداه أيضا في أوساط الحركات الإجتماعية الجديدة من المعطلين و ضحايا التشغيل الهش والمهمشين في الجهات الداخلية و الأحياء الفقيرة في أحزمة المدن الكبري ما لم يتغير بل إزداد سوءا هو الوضع الإقتصادي والإجتماعي للمفقرين والطبقات الوسطى مما لا يجعل الحرية و الديمقراطية يقترنان في واقع حياتهم بالخلاص من البؤس أو الأمل في ذلك بل بإستمراره وربما إستفحاله .كما يتسع هذا الصدي في أوساط صغار الفلاحين و المنتجين و أصحاب المؤسسات المنتجة و المشغلة في غياب دولة عادلة تحميهم من الطفيليين و المتنفذين و إدارة كفأة تأخذ بايديهم .
ما لم تنجح الحكومات المتعاقبة في كسبه هو ثقة شعب المغيبين فالطبقات الفقيرة و الشعبية لا تجد في السياسة الإجتماعية للدولة ضمانا لتكافؤ الفرص وللإنصاف الذي يجعل من المصعد الإجتماعي فاعلا بل إن إستمرار الحيف و نفوذ سلطة المال و تسلل رجال الأعمال
الفاسدين مجددا إلى دواليب السلطة وبيروقراطية الدولة و كواليسها وكذلك استمرار إنتهاج نفس منوال التنمية الفاشل، كل ذلك يضاعف شعور الغبن لدى من يرون أنفسهم مجتمع الثورة ولا يزالون يعاملون كمجتمع الهامش . ولم يلمسوا في عملية توسع مجال الحريات تطورا في قدراتهم الموضوعية للمساهمة في الإنتاج الديمقراطي للثروة بحكم تواصل نفوذ كبار المحتكرين فالقبول السياسي العام بالحرية يحتاج إلى إقترانها بتعزيز ما يسميه «أمارتا سان» قابلية الفقراء للتحول إلى منتجين . وإقترانها بالعدالة الإجتماعية .
دون ذلك سيستمر القلق الذي يدفع نصف الشباب تقريبا إلى الهجرة هروبا من وطن صار جحيما أو بحثا عن إطار آخر للعيش وقد يدفع اليائسين منهم إلى تبني العنف سلاحا للإنتقام .
التونسيون و إستعصاء الرسالة الكونية
لم تكن شعوب الشرق وعموم المسلمين قبل الثورة التونسية من منظور نظرية صدام الحضارات مؤهلة لتمثل قيم التحرر الكونية و للخروج للمطالبة بها بصريح العبارة و بعناد غير مآلوف فالغرب وحده من منابعه الفكرية و الدينية يتمثل قيم الحرية و التعددية و التسامح و التقدم في حين تبقى حضارات الهامش وأولها المسلمة منغلقة متناحرة عاجزة عن النهوض بنفسها .
ما نجحت الثورة التونسية إذن في إعلانه هو دخول الشرق من بوابة الحق السياسي عصر الكونية الأنسية الجديدة ما إستعصى على التونسيين هو المضي قدما في تعهد هذا الإقتدار اي إدراج مقاصد الثورة و خطابها و مطالبها في قلب الصراع الإنساني ضد العولمة النيوليبرالية ومد الجسور مع الساخطين في كل أرجاء المعمورة من أجل عالم آخر عماده الحق في الكرامة الأنسانية كما ذهب إلى ذلك الباحث التونسي صالح مصباح بعد أن نحجت الثورة التونسية القادمة من محيط العالم الحديث لا من مركزه في الإصداع به مطلبا مدويا مشحونا بالمعنى.
بل إن أعداد التونسيين الملتحقين ببؤر التوتر مبايعين التنظيمات الإرهابية و قيام شبان تونسيين بعمليات إرهابية في أوروبا آخرها نيس وبرلين عمم الإحساس بالإحباط و الوهن على قدرة ثورة الكرامة والمجتمع المدني التونسي بمكوناته النقابية و النسائية في صد هجوم القوى المحافظة في أوروبا في حق المسلمين و العرب و المهاجرين .
ما زاد في عسر هذه المهمة هو بقاء التجربة التونسية واحة للديمقراطية الناشئة في المنطقة بعد الإنتكاسة المصرية و تشظي دول المنطقة إلى طوائف متناحرة مشدودة إلى إنتماءات ما قبل الدولة قلق التونسيين و أصدقاء ثورتهم من تقدميي العالم من إحتمال إستهداف هذه التجربة الوليدة مبعثه قوة مثلث المال و الإعلام و الحرب الأمريكي - الأوروبي على بث الفوضي الخلاقة في منطقة يراد لها أن تبقى في دائرة نفوذه هذه السياسة الغربية و الخليجية عبر تلغيم جغرافية التمدد الديمقراطي الممكن لقيم الديمقراطية التونسية تزيد في إضعاف
الإقتدار التونسي و عزله
حشر التجربة التونسية إذن في زاوية خانقة بين دعاة الخصوصية الإسلامية و الحملات العنصرية الغربية التي إستبدلت تسمية الربيع العربي بالخريف الإسلامي والخوف العربي من نجاحها أضغف جاذبيتها الكونية وأدخل أبناءها في ريبة قاتلة ومأساوية.
نستأنف ما بعد ذكري الثورة الثورة كفعل أي الثورة كمسار ستبقي غايته حرية عمادها العدالة الإجتماعية و أفقه إنسية رادكالية جديدة كالتي تطلّع لها فرانتز فانون