والمكتب التنفيذي لمن لا يعرف يضم 13 عضوا يشرفون على تسيير أشهر وأعرق وأكبر منظمة في تونس بين مؤتمرين، وشهرة الإتحاد تعدّ ثمرة لممارسة لازمت المنظمة منذ تأسيسها وهي التصرّف كسلطة مضادّة في جل الأحيان .. مارست هذا الدور بلا حدود زمن الاستعمار ومارسته بنسب متفاوتة زمن الإستقلال .. وإجمالا فإنّ الإتحاد أو النقابة كما يحلو للتونسيين تسميته يشكل جزءا من المشهد اليومي في حياتهم فهو موضوع تأييد متعصّب أحيانا ونقد لاذع أحيانا أخرى وخصوصا عند تنفيذه لبعض الإضرابات غير الشعبية في قطاعات الصحة والتعليم والنقل العمومي إلخ ... وهو حاضر في البيوت والمقاهي والنوادي وفي كل مكان ، مساندوه كثيرون ومعارضوه يرتفع عددهم حسب وتيرة الإضرابات ليتصالحوا معه عند نجاح مفاوضات الزيادات في الأجور وتطوير التشريعات.
الاتحاد: النشأة والانحياز للوطن ولعب أدوار مهمة
الإتحاد منظمة نقابية عمالية «تشتغل» بالسياسة منذ تأسست سنة 1946 وربما حتى قبل التأسيس يوم كانت مشروعا، ساهمت في معارك طرد المستعمر .. حشدت الجماهير .. نظّمت الصفوف .. نشرت الوعي .. تصدّت للشركات الإستعمارية .. موّلت الحركات الإحتجاجية .. مارست الدبلوماسية الشعبية الحقيقية للتعريف بالقضية الوطنية .. عاضدت الكفاح المسلّح بالرجال والمال .. كما شاركت في معركة أشد ضراوة وهي بناء الدولة التونسية المستقلة ذات السيادة على كافة التراب التونسي .. في هذه المعركة كما في التي سبقتها أبلى الإتحاد البلاء الحسن .. قدّم للبلاد خيرة مناضليه وقادته للإسهام في بناء الدولة وإدارتها .. كما قدّم شبكة علاقاته الدولية لتستفيد الدولة من الود والصداقة التي تكنها الحركة النقابية العالمية للإتحاد ولتونس .. وكثيرة هي المشاريع والإنجازات التي كان الإتحاد وراء تحقيقها من خلال شبكة علاقاته الدولية.
هذا الإتحاد أسسه تونسيون تربوا في أحضان التيار الجارف للفكر الإشتراكي الّذي غزا العالم بعد الحرب العالمية الأولى .. تونسيون رفضوا الهيمنة الفكرية للتيار الشيوعي السائد في الحركة النقابية العالمية أثناء وبعد الحرب الكونية الثانية وانحازوا لوطنيتهم جاعلين منها الأولوية في نضالهم قاطعين مع تصوّر عمره قرن أو يزيد يضع التضامن الأممي بين العمال في طليعة الأولويات موليا للمسألة الوطنية مكانة ثانوية .. انتفضوا منذ سنة 1944.. وجسّدوا حلمهم سنتين فقط بعد ذلك التاريخ و بنوا نواة كيان نقابي قدّر له أن يظل شامخا لحد الساعة .. توحّد العمّال، الموظفون والمعلّمون وأسّسوا الإتّحاد .. لحظة التأسيس هي سر بقاء الإتحاد وإشعاعه وتعاظم قوّته .. لحظة التأسيس تحتفظ لحد اليوم بأسرار عديدة، فتلك اللحظة كانت لحظة الانحياز للوطن وللشعب قبل الانحياز لأية مصلحة أخرى وهذا التمشّي هو الّذي جعل من الإتحاد ما هو عليه اليوم .. في كل مرّة يثبت أنه لحظة الوطن وأنّ كل التيارات والحساسيات الفكرية والسياسية التي تتصارع و تتعايش داخله، تقبل بقانون اللعبة وتلتزم بالتسويات التي يثمرها تارة الوفاق وطورا الصندوق .. بهكذا تمشّي اكتسب الإتحاد مناعة ضد التصدّع .. فبالرغم من حجم الإتحاد هياكل وقواعد لم نسمع عن اِنسلاخات أو استقالات أو انشقاقات حاسمة وحتى بعض الاِستفزازات الحزبية الطائشة التي عشناها في السنوات الأخيرة اِرتدّت على مرتكبيها .. فمن عمد منهم إلى بعث نقابة سلّط على رقبته إِنفاقا ماليا ضخما لا طائل من ورائه ومن بين أكثر من مائتي حزب تونسي، واحد فقط عمد إلى بعث نقابة تابعة له و يبدو أنّ النتيجة كانت كارثية. وإجمالا فقد تحولت دور الإتحاد خلال السنوات الست الماضية إلى محجّة يرتادها رؤساء الأحزاب و سفراء الدول العظمى ورجال الأعمال المتنورين والضيوف الأجانب وصولا إلى تتويج عالمي بجائزة نوبل.
هذه المسيرة الطويلة وخصوصا قدرة الإتحاد على توظيف رصيده التاريخي وترسّخه في المشهدين الاجتماعي والسياسي قادته إلى لعب أدوار قد يعتقد البعض أنها ليست من اختصاصاته باِعتباره منظمة مهنية .. لكنها قادته أيضا اِعتبارا لاتساع حضوره وقدرته التعبوية إلى أن يصبح طرفا في التسويات الكبرى الّتي تهم المجتمع والدولة عموما .. هذا الدور ليس بغريب على الإتحاد فقد كان في قلب التسوية الأولى الّتي أثمرت الإستقلال وتمخضت عن مؤتمر صفاقس للحزب الحر الدستوري هذا الحزب الّذي حكم تونس إلى حدود يوم 14 جانفي 2011 وقد كان الإتحاد منذ ذلك التاريخ طرفا فاعلا في الحكم .. حاضرا في كل المحطات .. متفاعلا على طريقته مع كل الأحداث .. هذا الدور لم ينقطع بعد قطيعة 14 جانفي 2011.
ترك الإتحاد الأحزاب تلعب دورها و تؤطر جماهيرها ولم يتدخّل في العملية السياسة راسما لنفسه ضوابط تنبع من تراثه وتجربته وأهدافه لا يتخطاها ولا يخاطر بمكانته للإصطفاف وراء أي كان .. لكن الإغتيالات السياسية الّتي شهدتها البلاد فجّرت الموقف وكان رد الفعل أن نزل المواطنون إلى الشوارع واِنقسموا إلى فئتين .. وتمّ الإلتجاء إلى الإتحاد مجددا ليتشكل ما أصبح يعرف بالرباعي الراعي للحوار..
الاتحاد وتراكم التجارب
هذا الحديث يجرّنا إلى الجزم بأن المنظمة النقابية العمالية والّتي دخلت عقدها السابع و راكمت عديد التجارب تحوّلت إلى حكم يرعى الحوار .. الحوار بين الأحزاب و بين من يفترض أنهم حكام تونس .. فالمأزق الّذي وصلت إليه البلاد والذّي من أجل حلحلته تم الإلتجاء إلى الاتحاد، يدفع نحو الإعتقاد بأنّ محترفي السياسة والعلاقات العامّة والّذين يحتلون المنابر من الصباح إلى المساء عاجزون عن إدارة البلاد وعاجزون أيضا عن تلبية الحاجيات الضرورية للمواطنين ورسم وتنفيذ السياسات الملائمة وهكذا وصلنا إلى ما بات يعرف بـــ»تحالف اِكراهات الصندوق» إلى حكم هجين لا لون ولا طعم له والمعروف أن المهجن حتى من النباتات لا يصلح إلاّ لموسم واحد ولن يثمر بعدها وذلك هو حال هذه التجربة الهجينة التي نعيشها والّتي ستنتهي باِنتهاء مدّتها.
هذا الموت المبرمج سلفا لـــ»تحالف اِكراهات الصندوق» يطرح على الحركة النقابية التونسية وعلى غيرها أيضا مسؤوليات تاريخية لا مجال للهروب منها .. يطرح على الحركة النقابية العمالية خصوصا الرجوع إلى منابعها للنهل منها .. يطرح عليها الالتفات مجددا إلى مشروعها التاريخي الذي لم تتوفر سابقا الشروط لمباشرته ضمن شروط ملائمة اعتبارا لوجود زعيم في حجم بورقيبة قادم من أفق مختلف و لنضارة المنظمة التي لم تتجاوز تجربتها العشر سنوات.
ذلك المشروع الّذي طرح و نوقش أكثر من مرّة ولم يتم العدول عنه مطلقا إنما تمّ إرجاؤه في كل مناسبة في انتظار اللحظة المواتية التي لم تتح لا في خمسينات القرن الماضي عندما بلورت هذه الفكرة وصدرت بشأنها لائحة شهيرة لم يتم قط التراجع عنها أو التنكّر لها بصورة علنية، لائحة «الاندماج التنظيمي» والّتي تختزل المقاربة السياسية للإتحاد و فلسفته في ما يتعلق بالحياة الحزبية وتمثّل رؤية النقابيين و ضرورة مشاركتهم في الحياة السياسية، فلائحة 18 سبتمبر 1956 المصادق عليها بإجماع نوّاب المؤتمر السادس للإتّحاد أقرّت اندماج المنظمة النقابية مع الحزب الحر الدستوري بما يجعل من هذا الحزب الّذي قاد معركة الإستقلال حزبا عمّاليا. كما لم تتح في السبعينات عندما تمّ تناولها بشيء من التشنّج وردود الفعل المشخصنة ولا في العشرية الموالية حيث لم تحض المسألة بالمقاربة الجديّة .. مرور الزمن لم يصب الفكرة بالشيخوخة ولا بالتآكل .. ربما مرور الأيّام زادها توهّجا والتحولات التي عرفتها البلاد ووصول الحياة السياسية إلى المأزق التي هي عليه اليوم والمتمثل في تحالف هجين بين الرافد الرئيسي لليمين الليبرالي واليمين الإسلامي ذي الأصول الإخوانية وتشتت ما تبقى من القوى الليبرالية بين عشرات الأحزاب ناهيك عن ضعف القوى اليسارية الديمقراطية التي عانت من الحصار المفروض عليها منذ عهد بعيد .. هذا المأزق لا أحد يملك وصفة للخروج منه باِستثناء الحركة النقابية العمالية.
المتأمل في تاريخ الإتحاد ودوره في فترتي الكفاح التحريري وسنوات الإستقلال الأولى ليس مطالبا ببذل جهد كبير ليكتشف أنّ الإتحاد ليس منظمة نقابية تقليدية تكافح من أجل الأجور وتحسين ظروف العمل.. سريعا ما يكتشف اتحادا صاحب مشروع يغطي كافة مجالات الحياة وصاحب رؤية شاملة يطمح لتجسيدها.. وذلك ما حدث فعلا بعد أربع سنوات من الإستقلال (56 - 60) وهي الفترة التي استغرقها وضع أسس دولة الاستقلال و مباشرة الإصلاحات الكبرى لمحو آثار الأستعمار وهي العملية التي باشرتها الكتلة التاريخية المنبثقة عن مؤتمر صفاقس كما أنّ غياب طبقة رأس مالية تونسية قادرة على قيادة عملية التنمية جعل الإتحاد يتصدّر المشهد ببرنامجه الإقتصادي والإجتماعي الّذي رسمه منذ مؤتمر 1956 وهو برنامج يعتمد التخطيط والنهج الإشتراكي لإخراج تونس من التخلّف ومحو الآثار السلبية المترتبة عن الحقبة الإستعمارية.
الاتحاد ومسؤولية النهوض بتونس واقتصادها
لقد تحمّل أحد قادة الإتحاد وأمينه العام السابق وقتها مسؤولية النهوض بتونس واِقتصادها حيث تم وضع خطة عشرية مستلهمة من البرنامج الإقتصادي والإجتماعي للاتحاد وتم تنفيذ بعض ما جاء فيها وقد بدأ العديد من رجال الإقتصاد والمؤرخين اليوم يحكمون – خلافا لسياسيي وبعض نقابيي تلك الحقبة – لفائدتها و يثمّنون كم الإصلاحات والإنجازات التي شهدتها .. لقد تواصل المشروع عشر سنوات و غيّر وجه تونس ووضع الملامح الأساسية للنموذج التونسي عبر التعليم والصحة والسكن اللائق والرعاية الاجتماعية والتكوين المهني ونشر الثقافة التنويرية وحتى تحسين الهندام و الإرتقاء بالعادات الغذائية للتونسيين. وشهدت تلك الفترة ثورة تشريعية غطت كافة مجالات الحياة وأرست أسس الخيارات الكبرى الصائبة التي أسهمت في نحت نمط المجتمع الّذي نفخر به اليوم.. كما أنّ ذلك الميل التلقائي للعدالة الإجتماعية والّذي نلمسه لدى التونسيين، وجد كل الحظوظ للتعبير عن نفسه، لقد كانت عشرية ملحمية لكن التحالف بين بعض القيادات داخل الحركة النقابية والقوى المحافظة في صفوف حزب الدستور أسقطت المشروع وعبّدت الطريق لتجربة ليبرالية شرّكت الإتحاد ظاهريا في تجربة تنموية جديدة تعتمد نظريا على التوازن بين القطاعات الثلاثة لكنها وللأسف انخرطت عمليا في تصفية مؤسسات القطاع التعاوني وحشّدت الرأي العام ضد كل ما يمتّ بصلة للإشتراكية والفكر التعاوني الّذي بدأ بنشره منذ عشرينات القرن الماضي الزعيم الشاب محمد علي الحامي ملقية على كاهله النتائج المتواضعة للعشرية الأولى للتنمية. والمتابع لسياسات الإتحاد خلال السبعينات يقف على مفارقة غريبة، فقيادة الإتحاد الّتي تنكّرت للمشروع «العمّالي» الّذي اجتهد البعض في تطبيقه خلال الستينات عاودها الحنين بعد ثمان سنوات لا أكثر للفكرة العمالية فاِستقال العديد منهم من مسؤولياتهم في الحزب الإشتراكي الدستوري وراحوا يطالبون بشيء من الإحتشام بتكوين حزب عمالي، أي العودة إلى أصل المشروع الإتّحادي ونفس الأمر تكرّر في مناسبات أخرى.
مؤتمر الاتحاد والاشكاليات المطروحة
واليوم وقد عرفت البلاد قطيعة شبه كاملة مع النظام السياسي المبني على الحزب الواحد وبعد اختفاء الحزب الحليف طورا والمنافس طورا آخر من المشهد وانقسام مريديه السابقين إلى فرق وشيع جلها يبدي التودد والإستعداد لإسداء خدمات لأعداء الأمس، تجد الحركة النقابية نفسها أمام مسؤوليات جديدة، تجد نفسها أمام ائتلاف حزبي حاكم لا يتقاسم معها حتى الحد الأدنى من تبني المسألة الإجتماعية وتجد نفسها ولأول مرة محشورة في الزاوية، فإما التخلي عن الأدوار التاريخية التي نهضت بها منذ سبع عشريات أو الإقدام وبكل شجاعة على العودة إلى المشروع التاريخي مشروع «الحركة العمالية» والتي يمكن أن تكون في قلب تحالف جديد يقود تونس إلى التقدم والرقي والمناعة .. هل ستعود الحركة النقابية إلى ممارسة دورها التاريخي التي نذرت كفاحها من أجله وهو بناء المجتمع التونسي المتحرر الحداثي المتوازن اجتماعيا ؟ هل ستتسلح الحركة النقابية بالشجاعة وتعلن بصوت عال أنّها جاهزة لقيادة المشروع التونسي من خلال الحركة الّذي راودها دوما حلم تأسيسها ؟ هل سيقدم النقابيون بكل جرأة على إعادة هندسة المشهد السياسي بما يستجيب لانتظارات الشعب التونسي الذي بات يتعامل مع الفاعلين السياسيين بكل حذر وبفقدان متزايد للثقة والتواصل..
كل هذه الإشكاليات مطروحة على جدول أعمال المؤتمرين بصورة ضمنية بعيدا عن الضجيج الإعلامي وبعيدا أيضا عن التداول اليومي .. هذا الملف الخطير لا يمكن أن لا يكون على جدول أعمال المؤتمر وفي طليعة اهتمامات النقابيين .. فالإتحاد الذي بات غير قادر على مواصلة لعب نفس الأدوار ومنها المطلبية مهما كانت رصينة ومعقولة.. قادر على كسب تعاطف شرائح واسعة من المجتمع ومن مختلف الأصناف بما في ذلك من بين رجال الأعمال المتطلعين إلى الاستثمار والاستقرار وقادر على خوض معركة الحداثة بالتوازي مع المعركة من أجل التنمية و إرساء العدل الاجتماعي ومناضلوه محليا وجهويا ووطنيا يحضون بقدر كبير من الشعبية والتعاطف والاحترام وحتى الكاريزما كما أن النخبة لا تنظر بعين الرفض لـ«المشروع العمّالي» الذي يبدو منسجما مع الأصول الإجتماعية للأغلبية.
الإتحاد في مفترق الطرق، إمّا أن يتحول إلى منظمة مبتذلة في قطيعة مع شريحة واسعة من الرأي العام تبحث عن الإستقرار والأمن والرقي أو إلى قاطرة للمشروع الحداثي المتمثل في بناء مجتمع متوازن عادل يشعر فيه كل فرد بالعزة والكرامة.
هل يفعلها الإتحاد ؟ هل يضرب موعدا جديدا مع التاريخ ؟ هل يتمكّن من وضع حد لهذه الفوضى العارمة وهذا التدهور الّذي يقودنا بخطى بطيئة لكن ثابتة نحو جهنم الاِقتتال ؟
الحركة النقابية العمالية هي الأقدر اليوم على الحد من الآثار السلبية للعولمة المتوحشة والحد من النزوع المرضي نحو ظواهر الديني والهوياتي التي باتت تقسّم المجتمعات ... فهي الأقدر اليوم على إحياء الأمل .. أمل بناء مجتمع الحرية والرفاه للجميع .. وخصوصا لدى الشباب.
مختار بوبكر