الترسانة القانونية التونسية، غير قادرة على محاسبة العائدين من بؤر التوتر

بقلم القاضي والدكتور فريد بن جحا الخبير في القانون الدولي الإنساني

أصبح موضوع التونسيين العائدين من بؤر التوتر يثير الجدل المتواصل في مختلف الاوساط السياسية والحقوقية وطرح اشكالا حول مدى استعداد بلادنا لاستقبال جحافل التونسيين الذين شاركوا في النزاعات المسلحة في مختلف بلدان العالم بما في ذلك سوريا والعراق وليبيا.

في هذا الاطار صدرت تصريحات رسمية وشبه رسمية بانه سيتم تفعيل قانون الإرهاب في مواجهة هؤلاء المجرمين باعتبارهم حاملين للجنسية التونسية وتورطوا في ارتكاب جرائم خارج التراب التونسي طبقا للفصل 305 من مجلة الإجراءات الجزائية والقانون عدد 26 لسنة 2015 المؤرخ في 7 أوت 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال.

فهل ينطبق هذا القانون على الجرائم المرتبكة من طرف «الدواعش» التونسيين في بؤر التوتر؟
انّ الجرائم المرتكبة من طرف التونسيين المنتمين للميليشيات المسلحة في مختلف دول العالم وخاصة في ليبيا والعراق وسوريا موالاة لتنظيم «داعش» او لغيره من الجماعات الإرهابية يجب وضعها في سياقها القانوني وإضفاء الوصف القانوني الصحيح عليها لبيان مدى اختصاص المحاكم التونسية للبت فيها ومدى إمكانية انطباق قانون الإرهاب عليها.

فبالرجوع الى القانون عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب الذي عرف الجريمة الإرهابية وعدد الأفعال التي تعد جرائم إرهابية والتي يمكن تلخيصها في الجرائم الوطنية وعبر الوطنية التي تهدف الى بث الرعب بين السكان من خلال قتل شخص او ارتكاب أعمال عنف او الإضرار بمقر بعثة ديبلوماسية او منظمة دولية او الإضرار بالممتلكات العامّة او بوسائل النقل والاتصالات او استهداف الطائرات والسفن او كذلك استخدام أسلحة نووية أو بيولوجية أو كيميائية للإضرار بالممتلكات أو البيئة , وكذلك تندرج ضمن الجرائم الإرهابية كلّ الجرائم المستهدفة للأشخاص المتمتعين بحماية دولية...

فمختلف هذه الجرائم تحصل عادة في الظروف العادية وزمن السلم مثلما جرى مؤخرا في تركيا من استهداف مدنيين داخل ملهى ليلي او ما حصل في بلادنا في السنوات الماضية من إعمال ارهابية متفرقة لعلّ اهمها استهداف متحف باردو او نزل الامبريال بسوسة ...
الا انّ ماقام به التونسيون المسفّرون الى ليبيا والعراق وسوريا من جرائم قتل وتعذيب واغتصاب وإبادة قد ارتكب في سياق حروب ونزاعات مسلحة (دولية كانت او غير دولية )وهو ما يصنف كجرائم ضد الانسانية (كلّ هجوم واسع النطاق يستهدف السكان المدنيين من جرائم قتل واغتصاب وتعذيب وتهجير قسري ...) وجرائم حرب (انتهاك اعراف الحرب من خلال توجيه الهجمات العسكرية ضدّ الاطفال والشيوخ والنساء واستخدام الاسلحة المحظورة دوليا والتنكيل بأسرى الحرب واستهداف المناطق المحمية كالمتاحف والمساجد

والمدارس...) ومثل هذه الجرائم تمّ تاطيرها من خلال مختلف الاتفاقيات الدولية وخاصة اتفاقيات جنيف لسنة 1949 المتعلقة بحماية الجرحى والمرضى والمدنيين واسرى الحرب بما يجعل القانون المنطبق هو القانون الدولي الانساني وليس قانون الارهاب. وهذا ما اقرته منظمة الامم المتحدة في عديد المناسبات اذ اعلنت لجنة التحقيق المستقلة التابعة للامم المتحدة خلال شهر فيفري 2016 ان قوات الحكومة السورية وتنظيم داعش يواصلان منذ اكثر من 5 سنوات ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الانسانية وذلك في خرق واضح للقانون الدولي الانساني. كما صدر عن مجلس الامن التابع للامم المتحدة القرار رقم 2332 في شهر ديسمبر 2016 والذي اشار الى ان بعض الانتهاكات المرتكبة في سوريا قد تصل الى جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.

فهل ان القانون التونسي يتضمن مثل هذه الجرائم اي هل انه يسمح بتتبع العائدين من بؤر التوتر من اجل جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية؟
رغم مصادقة بلادنا على مختلف الاتفاقيات المشكلة للقانون الدولي الانساني وخاصة اتفاقيات جنيف لسنة 1949 وكذلك على اتفاقية عدم تقادم الجرائم ضد الانسانية وكذلك على اتفاقية روما حول المحكمة الجنائية الدولية فان هذه المصادقات لم تواكبها اي ملاءمة على مستوى التشريع الوطني وهو ما يعني وجود فراغ تشريعي على مستوى القانون الجزائي : فرغم وجود الجرائم المذكورة فانّ المنظومة القانونية الوطنية لا تتضمن عقوبات تسمح للقاضي الوطني (المدني او العسكري) بمحاسبة التونسيين المتورطين في انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الانساني (جرائم حرب او جرائم ضد الانسانية).

ان غياب نصوص قانونية تعاقب على الجرائم المذكورة يجعل القضاء الوطني عاجزا عن محاسبة هؤلاء المجرمين الذين يمكن ان يتمسكوا بعدم انطباق قانون الارهاب على جرائمهم كما يمكن ان يطلب محاموهم إطلاق سراحهم لانعدام الركن الشرعي (نصّ قانوني يجرّم الفعل و يحدد العقوبات الملائمة) للجريمة.

فماهو الحل القانوني اذن ؟
في اطار المبادئ العامة للقانون الجزائي وخاصة مبدا اقليمية النص الجزائي يمكن ان تتكفل الحكومات السورية او العراقية او الليبية التي ارتكبت على أقاليمها انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الانساني من طرف المواطنين التونسيين بمقاضاتهم ومعاقبتهم طبقا لقوانينها الوطنية. كما يمكن في صورة رجوع بعض المجرمين الى بلادنا ان يقع التفاعل مع تلك الحكومات وتسليم المجرمين التونسيين لمعاقبتهم عمّا ارتكبوه من مجازر وفظاعات ويكون ذلك من خلال اتفاقيات التعاون القضائي.

اما بالنسبة لتدويل هذه القضايا فانه يطرح اشكال بخصوص مدى امكانية تعهد المحكمة الجنائية الدولية بمثل هذه الجرائم؟
للجواب عن هذا الاشكال يجب التذكير بان نظام روما الاساسي حول المحكمة الجنائية الدولية لسنة 2008 أكّد على ان المحكمة يمكنها التعهد بجرائم الابادة البشرية والجرائم ضد الإنسانية وبجرائم الحرب المرتكبة منذ دخول نظامها الأساسي حيز التنفيذ (سنة 2002) الّا انه قيّد هذا التعهد في 3 صور : الصورة الأولى أن يكون رفع الدعاوى من طرف دولة طرف في معاهدة روما ،وان يفتح المدعي العام تحقيقا من تلقاء نفسه في خصوص جرائم ارتكبت فوق إقليم دولة طرف او من رعايا دولة طرف في نظام روما الاساسي ،
واخيرا في صورة احالة مجلس الأمن لـانتهاكات على المحكمة الجنائية الدولية (‹ولو تعلق الامر بدولة غير طرف في المحكمة الجنائية).

فاذا اقصينا الحالة الاخيرة باعتبار ان روسيا والصين قد استخدما حق الفيتو في ثلاث مناسبات للتصدي الى إحالة الصراع السوري الى المحكمة الجنائية والدولية، واذا عرفنا ان سوريا ليست طرف في المحكمة الجنائية الدولية فانّ الحل الوحيد الذي يبقى في هذا الإطار هو ان يفتح المدعي العام تحقيقا من تلقاء نفسه في خصوص انتهاكات ارتكبت من طرفا رعايا دولة طرف في النظام الأساسي لروما (كما هو الحال بالنسبة لتونس التي أصبحت طرفا في المحكمة الجنائية الدولية منذ سنة 2011) .هذا الحل قدمته المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية التي صرحت خلال شهر نوفمبر 2014 بان هناك معلومات عديدة مفادها ان صفوف تنظيم داعش تضم أجانب من دول وقعت اتفاقية مع المحكمة الجنائية الدولية كالأردن او تونس وكذلك عديد الدول الاروبية وأضافت انه يمكن ملاحقة هؤلاء المجرمين بتهم ارتكاب جرائم حرب او جرائم ضد الانسانية.

كما انه بامكان الدولة التونسية، وفي غياب تشريع وطني يزجر ويعاقب عن جرائم الحرب ، ان تقدم قضايا ضد العائدين من بؤر التوتر وتتعاون بالتالي مع المحكمة الجنائية الدولية للحيلولة دون الافلات من العقاب.

نستنج اذا اننا لا نتعامل مع جرائم عادية ارتكبت في ظروف عادية وانما مع جرائم ارتكبت في سياق نزاع مسلح دولي احيانا وغير دولي احيانا اخرى ، ولتقريب الصورة اكثر فانه لا يمكن ان نطبق القانون الجزائي الوطني بما يتضمنه من جرائم تقليدية (قتل اغتصاب وتعذيب...) على أشخاص تورطوا في جرائم خاصة كتعذيب أسرى الحرب من الجيش السوري او اغتصاب نساء قرية عراقية والاتجار بهنّ اثر «غزوها» من طرف تنظيم داعش...

كما انه وحتى في صورة اسراع مجلس النواب بملاءمة التشريع الوطني مع اتفاقيات جنيف المصادق عليها ومع اتفاقية روما حول المحكمة الجنائية الدولية فانه لا يمكن أيضا معاقبة العائدين من بؤر التوتر الذين ارتكبوا جرائم قبل صدور القانون الجديد عملا بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي نصّ عليه الفصل 28 من الدستور. الا ان هذا التدخل التشريعي يبقى ضروريا لتحصين بلادنا من مثل هذه الجرائم مستقبلا ولتخويل القضاء الوطني تتبع ومحاسبة هؤلاء المجرمين بالنسبة للجرائم المرتكبة بعد دخول القانون الجديد حيز التنفيذ لان ذلك يعتبر مظهرا من مظاهر السيادة الوطنية لانه مع الاسف لو تحركت المحكمة الجنائية الدولية في قادم الأيام وفتح المدعي العام بتلك المحكمة تحقيقا من تلقاء نفسه فانه لا يمكن للدولة التونسية التمسك بمبدأ السيادة التونسية وادعاء قدرتها على التعهد بجرائم التونسيين

المرتكبة في بؤر التوتر وذلك في ظل الفراغ التشريعي الذي وقع توضيحه والذي يجعل كل دولة (غير قادرة او غير راغبة في تتبع الانتهاكات الجسيمة لقانون الدولة الانساني) تتخلى عن دورها السيادي ويسحب منها البساط لفائدة القضاء الجنائي الدولي، علما وان بلادنا هي في وضع الطرف غير القادر حاليا لتتبع تلك الجرائم والانتهاكات نظرا لعدم انطباق القوانين الحالية على الجرائم المذكورة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115