حياتي سنة 2004موفدا من قبل اليونسكو للإعانة على إعادة بناء المدرسة العراقية...فليس هينا أن ترى رأي العين- بمجرد الخروج من المطار - معنى التدمير الحضاري ،وأن تشهد شهود الأصل معنى الاعتداء على ذاكرة أصل الإنسانية...ولكنّ الحقيقة تقتضي الاعتراف الصريح بأنّ ما جرى على العراق الشقيق، مهد الذكاء البشري من صنيع العراقيين أنفسهم قبل غيرهم.بل ما كان لغيرهم أن يمتد طمعه إلى بلاد جيلقامش وحمورابي والكندي والمتنبي لو لم يطمعهم فيها العراقيون أنفسهم موضوعيا اي بصرف النظر عن المقاصد الذاتية والعواطف النبيلة والشعور بالوطنية الخالصة ...تلك قيم ضرورية ولكنها غير كافية... فلئن كانت الحرب ضد الفرس «استباقية «على الأقل في بعد من أبعادها محتشم ، فان احتلال الكويت –مهما كانت دوافعه- ظلم لا يغتفر انتهى إلى كارثة ما كان لها أن تخفى على عاقل . فالسياسة مبادئ ونتائج ،وحساب وانجازات ،وليست مجرد نوايا وخطابات ...وعلى هذا فليقس ما لم يقل في الشأن السوري، بحكم التقاء سياسة البلدين –موضوعيا - عند موضع الاعتقاد الفاسد ،أنه يمكن حكم شعب ما بالقوة الغاشمة ،وقمع أ شوق الإنسان –مطلق الإنسان – إلى الحرية حتى لو وضعت جنة الخلد بين يديه ...فكل ما يفعل من أجلي دون إرادتي ليس منّي، ولا من فعله من أهلي ...قيل لنا أمس في الشرق العربي «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» وقيل لنا في المغرب العربي «لا مطلب يسبق مطلب التنمية» ... فلا ارض تحررت ولا أوطان نمت...
والدرس المستفاد من مصاعب الشعبين الشقيقين انه ما هان وطن إلا من هوانه على أبنائه .وليس ثمة ما يبرر التفصي عن المسؤولية الذاتية باتخاذ ‘،المؤامرات الامبريالية ‘، تكأة،، فسادها أظهر من أن يخفى .فلا ريب في أن الاستعمار بجميع أشكاله لا يريد لنا خيرا.ولكن لا ريب كذلك في أنّنا مطالبون بأن نرد على المكر بالمكر الأقصى .فليس المهم ما يراد بي بل ما أفعله بما يراد بي...وليس ثمة مواطن بريء-أنى كان موقعه في الحكم أو في العارضة - يوم يهان الوطن .
ويقيني أن أخشى ما نخشاه اليوم –نحن معشر التونسيين – أن نكون قد تأخرنا بعد عن الواجب نحو الوطن ونحو ثورة الوطن، وأن أخشى ما نخشاه اليوم مزيد استشراء ارادة تحديدا تصفية الوجود التونسي ! وأستأذن القارئ الكريم في أن أرفع الى علمه، أني كنت نبهت في مقال تحليلي كتبته قبيل انتخابات 2011 نشرته جريدة ‘،الطريق الجديد ‘، على أننا مهددون بالانتقال من نظام دكتاتوري إلى نظام دكتاتوري ظلامي ... و كنت حذرت في حوار مطول نشرته جريدة «الشروق» يوم 5 جوان 2012 «وجوب إنقاذ تونس من ورطة الترويكا حتى لا يصبح الدواء أمرّ من الداء»... وفي هذه المعاني ذاتها نشرت في جريدة «المغرب» مداخلات متعددة !
ولم يكن ذلك من فرط ذكاء أدّعيه بل من طول خبرة بمعاني الانتساب إلى الإسلام السياسي ، وعن بعد معرفة مباشرة بمسالك رواده .ومع ذلك فقد كان الواقع مع هؤلاء أغرب من الخيال ، فما مست أيديهم شيئا إلا ذهبت بركته. ولا اعتقد انه مما يحتاج إليه بيان ما عليه
الوطن اليوم من وهن .فلولا تأصل التونسي في هويته الوطنية التونسية ،وفي انتمائه المغاربي-العربي –الإسلامي –المتوسطي- لعصفت به رياح الهويات الوهمية على اختلافها ،ولذهبت بعقله نظرية التكامل بين الرجل والمرأة بدل المساواة بينهما ، ولفقد الحس السليم غداة تكاثر فتاوى جهاد النكاح ومضاجعة الزوجة ميتة ، وختان البنات إكراما لهنّ ما بعده من إكرام الا تطبيق حد الحرابة على الوطنيين المطالبين بحقوقهم ، وطمس عين واحدة بدل اثنتين رشا بالبارود...فضلا عن التبشير بثقافة الإرهاب وتعمد تضليل بعض شبابنا لتحويله إلى قنابل حقد موجهة إلى صدر تونس، والى صدور إخواننا في سوريا والعراق وليبيا ومواضع أخرى من مواضع الفتنة ...والفتنة أشد من القتل ...وليس مما يحتاج إليه كذلك بيان وهن أوضاعنا اقتصاديا وتربويا وثقافيا وصحيا واجتماعيا ...فأنّى سرحت بصرك وجدت معاول الهدم -الظاهر منها والخفي – تخرق جسد تونس بلا هوادة ...إن أخشى ما نخشى اليوم أن تذهب ريح تونس بين متردد وحاقد،بين شعبوية بلهاء وتقوى فاجرة !
ولا شك عند كل ذي حس سليم، أن ذلك كله يسمّى في جميع معاجم الدنيا ‘،خيانة وطنية ‘، تستهدف –بطرق الغباء المتذاكي على شعب ربته مدرسة الجمهورية على أن يضع القول على مواضعه- إفساد هوية تونس -تاريخا شهد مولد الزمن ، وفكرا عرف كيف يأخذ عن الدنيا في غير وجل ، ويجزل لها العطاء في غير منّ ،وطموحات واعدة بالارتقاء بالحضارة العربية الإسلامية كلها الى مصاف لم ترتق إليه من قبل حتى في ما اعتبرته –توهما-أزهي عهودها...
لذالك لم أعجب من أن تلقى تونس من العنت والعطالة ما تخرّ له الجبال ...ولكني اعترف أني ما كنت أتوقع ان يلحقها كل هذا الضّرّ اللاّمتناهي من بعض أبنائها الذين استهدوا العميان فضلوا ضلالا بعيدا ،وأضلّوا الكثير ...عدتهم في ذلك حقد دفين على دولة الاستقلال وبناة دولة الاستقلال وفي مقدمتهم «المجاهد الأكبر» رحمه الله رحمة واسعة، ،وكذب على الله وعلى عباد الله يرددونه فوق المنابر ، ومال متدفق بلا حساب، و مجرمون بلا عقاب ،حتى أصبح العربي المسلم أضحوكة العالم، ومصدر مخاوفه ، ورهطا مهددا بالخروج من التاريخ ...
أمّا اليوم- وقد حصحص الحق – فان تونس-وطنا وشعبا وثورة- أمانة بين أيدي القوات المسلحة يتقدمها الجيش الوطني ‘ وبين يدي المجتمع المدني يتقدمه الاتحاد العام التونسي للشغل ، مدرسة لم تفصل يوما في تاريخها المجيد الواجب الوطني المقدس عن الحق الاجتماعي العادل .والرأي عندي أنّ الواجب الوطني يدعو اليوم بإلحاح – قبل خراب البصرة - إلى أن يستأنف «الرباعي» رباعي جائزة نوبل للوطنية، قيادة تونس سياسيا من جديد حتى خروجها آمنة من منطقة الأخطار المحدقة بها داخليا وخارجيا وفي مقدمتها الإرهاب بفعل حفنة غادرة من أبنائها ...
واعتبارا لما آلت إليه الأحزاب من أوضاع مؤسفة فانّ الحكمة تقتضي أن تحتضن رئاسة الجمهورية عمل «الرباعي» باعتبار السيد رئيس الجمهورية هو رئيس جميع التونسيين دستوريا من ناحية أولى، وهو الرئيس المنتخب انتخابا مباشرا من الشعب من ناحية ثانية ،وباعتباره من ناحية ثالثة المسؤول الأول سياسيا وأخلاقيا عن سلامة الوطن داخليا وخارجيا ،وماديا وحضاريا ,وفكريا ونفسانيا، وتربويا وثقافيا ...فكلّ ذلك هو أمن الوطن !
وفي تقديري أن كل تأخير أو تلكؤ في الأخذ بأسباب انتهاج سياسة إنقاذ وطني ، إنما هو- موضوعيا - سوء تقدير لما يتعرض له الوطن من مخاطر داهمة دامية ، وهو- في حقيقته - تهاون بما يقتضيه استكمال شروط تحقيق أهداف ثورة شباب مدرسة الجمهورية العازم بإيمان الأنبياء على تحقيق مطالبه المشروعة في «الشغل والحرية والكرامة الوطنية».