من العودة إلى البلاد لولا «تلكؤ» الإدارة التونسية في الرد على الطلب الألماني بترحيله. و يمكن أن نتصور أن هذا الإرهابي لو عاد إلى تونس لأقدم على تنفيذ أعماله الإجرامية ضد التونسيين. كما أنه ليس من الصعب أن نتصور أن أمثال هذا الإرهابي موجودون بالمئات في أوروبا و أن بلدان الاستقبال تضغط لتسريع عودتهم إلى بلادنا. هذا دون أن ننسى اغتيال الشهيد محمد الزواري من طرف مخابرات أجنبية هي في أغلب الظن إسرائيلية. و من الحكمة و بعد النظر أن يفكر المرء بما حدث في الجزائر من حرب مدمرة قادتها المجموعات الإرهابية العائدة من أفغانستان بعد دحر الإتحاد السوفياتي والعشرية السوداء التي عاشها البلد الشقيق و التي راح ضحيتها عشرات الآلاف. فالسيناريو الجزائري قد يعاد في تونس و ربما بأكثر خطورة
مساءلة الحكومة - ما هو مصير800 عنصر العائدين؟؟
رغم ثقة التونسيين في جيشهم و أجهزتهم الأمنية فإن الصدمة و التخوف هما سيدا الموقف. وما يحيّر في الأمر أن السلطات الأمنية قد تكون تعاملت مع هذا الأمر الخطير (عودة حوالي 800 متشدد) بنوع من الروتينية والتقليدية وطبقت عليهم الإجراءات العادية في حين أننا أمام ظاهرة استثنائية و خطيرة تتطلب علاجا مختلفا. ومن حق الرأي العام أن يعرف هل عاد هؤلاء عبر الحدود أم عادوا بطرق غير شرعية و في هذه الحالة فمن الضروري معرفة نسبة المتسللين و كيف لم يتم رصدهم من مصالح الحدود؟؟و على الحكومة أن توضح للتونسيين ما ذا فعلت بهذا العدد الهائل من العائدين؟؟؟ و هل قامت المصالح الأمنية بفرز دقيق لهم لتصنفهم حسب الخطورة و تعالج أمرهم حسب مقاييس موضوعية؟؟ و هل تم اعتقال جلهم و في هذه الحالة هل هنالك ما يكفي من السجون لإيواء هذا العدد الكبير؟؟؟ و الحال أن الرأي العام يعلم بأن السجون مكتظة و قد صرح مسؤولون أن الدولة ليست لها الإمكانيات للاحتفاظ بهذا العدد الهائل؟؟؟ أم هل تم اعتقال البعض وتم إطلاق سراح البعض الأخر و في هذه الحالة هل هنالك مراقبة ناجعة و فعالة على هؤلاء؟؟ و هل هنالك متابعة لتحركاتهم و نشاطاتهم؟؟؟ و هل لدى أجهزتنا الأمنية ما يكفي من طاقات بشرية و معدات للمراقبة؟؟ ففي فرنسا مثلا هنالك جدل واسع حول السوار الإلكتروني bracelet électronique لمراقبة المشبوهين و تتعلل المصالح الأمنية في فرنسا بضعف الإمكانيات لاستعمال هذه الطريقة التي تتطلب إمكانيات بشرية و مادية كبيرة.
سياسة «اللحم النتن» خطيرة على أمن البلاد
سوف يبقى تصريح رئيس حركة النهضة علامة فارقة في معالجة هذا الملف. « فعودة اللحم النتن إلى أصحابه» تعني أنه على بلادنا أن تستقبل و «بكل بساطة» هؤلاء العائدين من بؤر التوتر. و هذا الرأي خطير على أمن البلاد و امن التونسيين. فكما أن اللحم الفاسد خطر كبير على المستهلكين و يمكن أو يودي بحياة العشرات ويحدث أضرارا جسيمة بالمجتمع فإن هؤلاء العائدين يمثلون خطرا كبيرا لأنهم تدربوا على حمل السلاح و العمليات القتاليــــة المتنوعة وتلطخـــت أياديهم بالدماء وبالتالي فهم مجرمون خطيرون لا يجب فتح الباب على مصراعيه لعودتهم. من جهة أخرى فإنهم عادوا مهزومين – على عكس المقاتلين الأفغان الذين عادوا منتصرين - و هذه الهزيمة قد تجعلهم أكثر شراسة و إجرامية ضد شعوبهم. من جهة ثالثة فإن القناعات الإيديولوجية لتلك المجموعات لن تتغير بين ليلة و ضحاها و سوف لن يتخلوا عن عقلية التكفير والتقتيل . فقد أثبتت التجارب الماضية أن القليل منهم قام بمراجعات و أن تلك المراجعات تمت أغلبها في السجون و أنها تطلبت ردحا طويلا من الزمن. فأغلب الجهاديين التونسيين واصلوا تكفيرهم و تقتيلهم بعد أن خرجوا من السجون بفعل العفو التشريعي العام رغم ما فتحته الثورة من حرية للجميع بما في ذلك التيارات السلفية. من جهة أخرى فقد تكون هنالك أجندات و مؤامرات دولية و إقليمية لزعزعة استقرار بلادنا عبر استعمال هذه العصابات بعد أن تم توظيفها في مناطق أخرى. خلاصة القول أن قبول هؤلاء العائدين هكذا و بكل بساطة حسب نظرية «اللحم النتن» خطير على مصلحة البلاد و تهديد لأمنها القومي. وإن الموقف المبدئي هو الرفض القطعي لعودتهم بصورة صارمة.
مؤتمر وطني و مبادرة تشريعية عاجلة
صحيح أن هذا الملف جد متشعب و فيه عديد الجوانب الفنية التي قد لا يعرفها إلا المختصون من الجهاز الأمني. و لكن الموقف السياسي هو الذي يجب أن يكون المحدد في هذا الملف. و الموقف السياسي الوطني هو الحفاظ على الأمن القومي مهما كانت التكاليف.
لقد بحت أصوات قادة الجبهة الشعبية وهم يدعون إلى عقد مؤتمر وطني لمقاومة الإرهاب. و اليوم أصبح هذا المؤتمر مسألة ملحة و عاجلة لصياغة خطة وطنية لمقاومة هذه الظاهرة الخطيرة بإجراءات خصوصية حازمة وعاجلة و التوقف عن معالجتها بالطرق الروتينية و التقليدية. و في هذا المجال لا توجد أي محرمات وكل المقترحات توضع على الطاولة و تناقش= من مسألة نزع الجنسية و تحوير الدستور إلى الرفض القطعي لعودتهم مهما كانت التعلات إلى استنباط إجراءات قانونية خصوصية و استثنائية عبر مبادرة تشريعية من أجل التعامل مع المتشددين العائدين من مناطق النزاع. فحسب عديد الملاحظين نجحت بلدان مثل الدانمارك و المانيا في إقامة مراكز خصوصية لإيواء المتشددين تمكن من معالجة ملفاتهم بهدوء و دراسة أوضاعهم بتأني و تمعن بعيدا عن ضغوطات الوقت و الإمكانيات اللوجستية من أجل إصلاحهم و إدماجهم. فالقوانين و الدساتير ليست كتبا سماوية منزلة و إنما هي نصوص وضعها البشر لتنظيم شؤونهم و يمكن تعديلها عندما تقتضي ضرورة و مصالح البشر.
و إن على الحكومة أن لا تخضع لابتزاز بعض الأطراف الدولية ( كفاهم ابتزازا) و تسارع باستقبال المشبوهين في أسرع وقت مثلما تريد ألمانيا. كما على الدبلوماسية التونسية أن تتعامل بصرامة و حزم مع طلبات البلدان الصديقة أو الشقيقة التي تريد ترحيل التونسيين. فالدولة التونسية لها ظروفها وإمكانياتها و أوضاعها الداخلية و لا يمكن لها الاستجابة لتلك الطلبات إلا في الوقت المناسب و في الظرف الذي تسمح به إمكانيات البلاد. فالأمر لا يتعلق بمواطنين تونسيين قاموا بعمليات سرقة أو غيرها. و إنما هي ظاهرة الإرهاب المعولم و التي اكتوت بنارها جميع البلدان و تتطلب معالجتها مجهودا دوليا. و يمكن لبلادنا أن تدرس تدويل هذا الملف و الذهاب به إلى الأمم المتحدة و الحال أن المجتمع الدولي و الدول العظمى خاصة مسؤولة بصورة مباشرة على هذا الوضع و عليها أن تتحمل مسؤوليتها.
عبد المجيد المسلمي
( عضو المجلس المركزي للجبهة الشعبية)