و التاريخي للذكري التي نحييها كل عام في مسيرة مجتمع كمجتمعنا اليوم سواء تناولناه كبنية لها مقوماتها و مكاسبها وإطارها المرجعي الذي يميزها عن غيرها من المجتمعات العربية الإسلامية أو اخذناه في تناقضاته وصراعاته الداخلية بين مكوناته الثقافية و الطبقية و السياسية والجيلية .وهي حقيقة سوسيولوجية لا مجال لإنكارها .أيضا
يخفي هذا الإجماع الظاهري و الإحتفالي حول شعار حقوق الإنسان اليوم في تونس حقيقة ما يخترق المجتمع و النخب من تباين حد التنافر حول مدلول هذه القيم وهو تباين يرجعنا إلى أواخر السبعينات زمن إقدام نخب ليبرالية مستقلة و تقدمية و ووجوه دستورية على الـتأسيس التوافقي مع النظام السياسي القائم للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان إستغلالا لفسحة من الإنفتاح السياسي كانت دولة بورقيبة مستعدة له دون مجازفة . حينها لم تكن فلسفة حقوق الإنسان محل قبول واسع في اوساط سياسية عدة ومع ذلك تحولت الرابطة تدريجيا إلى ملجأ جديد لفاعلىن سياسيين حرموا من حق التنظم وفرضت نفسها على السلطة كمنظمة تدرجت نحو الإستقلالية وعلى العائلات الفكرية المتعددة بإعتبارها مظلة مدنية لكل المجتمع .
لقد كان المدخل الحقوقي أحد المداخل الفاعلة و الحيوية التي ساهمت في توسيع مجال الحريات والضغط على الحكم التسلطي و كسب الدعم الدولي للنضال الديمقراطي في تونس على مدي عقود ومن المهم اليوم أن نطرح مسألة حقوق الإنسان من زاوية مغايرة في ظل تحولات الوضع السياسي و مكاسب الدستور الجديد وما رشح من المجتمع من مواقف وتصورات و إتجاهات .بينت للتونسيين ما يشقهم من تناقضات جوهرية علىهم عدم طمسها بل الخوض فيها دون المس بمقومات العيش السلمي المشترك.
النضال الحقوقي في ظل دستور الجمهورية الثانية
يفترض ان تحدث الثورة قطيعة تاريخية مع منظومة الحكم التي سبقتها وأن تؤسس لنظام سياسي جديد يقوم على علوية القانون و سلطة المؤسسات وهو ما نجد صداه و مقدماته في دستور الجمهورية التونسية الثانية بما يعني تحول محور النضال الحقوقي من حقل الصراع حول مبادئ الدستور و مرجعيته إلى حقول أخرى هي بالأساس حقول الممارسة السياسية و المجتمعية وبالتالي الإقرار بأن القطيعة التي يقرها النص لا تعني قطيعة فعلىة وآلية في الواقع و الممارسة فالدستور الديمقراطي وحده لا يحول مؤسسات الدولة القضائية و الأمنية و السجنية والإدارية .والمنتجة . بالضرورة إلى مؤسسات عادلة وديمقراطية كما انه وإذ يمنح الدولة مشروعية السيادة على مواطنيها بموجب العقد الإجتماعي الجديد فهو لا يحول قيم المجتمع و ثقافته السائدة إلى قيم وثقافة ديمقراطية مواطنية تسمح للفرد بأن يحتفي بحقوقه وتلزمه بان لا تمتد يده إلى حقوق الغير.
بهذا يتوضح أفق البراديغم المقبل للفعل الحقوقي في تونس اليوم وهو برايدغم يستدعي أدوات عمل وخططا مغايرة للأدوات المألوفة حين كان التسلط يضع وجها لوجه قيم حقوق الإنسان و منظومة الإستبداد المكشوفة بعد أن صار الرهان موجها نحو دمقرطة الدولة برمتها في مسار مرحلة انتقالية عسيرة و دمقرطة المجتمع في ظل تحول محتمل للقيم التي تسوده.
ويمكن في هذا السياق حصر التغير الذي يفترضه الإطار الدستوري كإطار مرجعي جديد في مستويين المستوى الاول يكمن في خوض معركة التشريعات و القوانين الأساسية والتطبيقية حتى تكون ملائمة لروح الدستور وتتحول إلى أداة لدمقرطة كل المدونة القانونية وبالتالي كل مؤسسات الدولة والعمل على جعل نظام عمل هذه المؤسسات الداخلي وفي علاقتها بالمواطن وممارسات أعوانها مستبطنا للسياق الجديد في ظل الجمهورية الديمقراطية .فرفض التعذيب والحق في المحاكمة العادلة و المساواة أما القانون دون حيف ...و إحترام الحق في التظاهر والتعبير صارت محاور تعبئة تقف فيها الحركة الحقوقية على أرضية الشرعية القانونية العليا أي شرعية الدستور ويحوّل الدولة أو من يمثلها إذا إنتهكت هذه الحقوق أو غيرها إلى دولة مارقة عن القانون . لقد غير الدستور الجديد صيغة العلاقة بين الدولة والمجتمع إذ لم تعد الدولة هي التي تكيف و تصقل وعي وسلوك الجسم الإجتماعي بل صار بمقدور الجسم الإجتماعي بوعيه المكتسب وعبر مؤسسات المجتمع المدني أن يقوّم كل إنحراف تسلطي للدولة وأساليبها في المنع و الجزر و إنتهاك الحقوق بشكل سافر أو ناعم والإلتفاف على القوانين التي وضعتها بنفسها أو المواثيق الدولية التي تعهدت بها.
المستوى الثاني يتعلق بالعمل داخل المجتمع ذاته فالهوة القائمة بين القيم الكونية لحقوق الإنسان وثقافة المجتمع التقليدية ووعيه التلقائي تحتاج بدورها إلى إلتزام مضاعف بتحويل الحرية إلى مكسب و لتعميم التربية المواطنية و المدنية على حقوق الإنسان حتى تتوسع دائرة الإيمان بهذه الحقوق وتصبح حرية المعتقد و حرية الراي و المساواة بين الجنسين وحقوق الأقليات جزءا من الثقافة المشتركة قدر المستطاع في جسم المجتمع و بنياته المحلية و مؤسساته وليست هذه المعركة محسومة سلفا بحكم حركة الزمن وحدها فالافكار و التمثلات و القيم التقليدية المنافية لقيم حقوق الإنسان لن تتراجع بل يمكن أن تؤججها حملات إيديولويجية مضادة فالحاجة اليوم حيوية إلى هيمنة ثقافية لقيم الحرية و الديمقراطية . تتجاوز حدود النخب لتمتد إلى الفضاء العمومي وفي بذل هذا الجهد سيقف المناضل الحقوقي على أشكال أخري من التسلط و التصلب الرافضة للقيم الحقوقية الثاوية في المجتمع أي خارج مجال الدولة وسيضطر إلى إجتراح الحلول.
هذا المستوى الثاني هو مستوى التحول مما يسميه محمد عابد الجابري مثلث القبيلة و الغنيمة والمقدس المشكّل للعقل السياسي العربي التسلطي إلى مثلث المواطنة و الإقتصاد المنتج و الراي الحر كشروط للحداثة السياسية ..
المواطنة الإجتماعية مدار آخر من مدارات المواطنة
يشدد البعض من المحتفين بالدستور التوافقي عن قصد أحيانا على ما تضمنه من حقوق وحريات وعلى تثبيته للطابع المدني للدولة و حقوق النساء .... وهي فعلا مكاسب ثمينة غير انهم يتجاهلون ما تضمنه كذلك من إعتراف بجملة من الحقوق الإقتصادية و الإجتماعية تتعلق بالحق في الشغل اللائق و الصحة والتعلىم و البيئة السليمة والخدمات العمومية والحق النقابي هو ما يفترض إضفاء مدلول إجتماعي على مفهوم المواطنة أي على إعتبار الحق في المواطنة مشروطا بتوفر مقومات هذه المواطنة الفعلىة والتي بدونها تصبح هذه الأخيرة مجرد مقولة قانونية مجردة وغير عادلة.
إن نقل ثقل المعركة الحقوقية إلى مستوى الجيل الثاني والثالت من هذه الحقوق ونعني بها الحقوق اللإقتصادية والإجتماعية و البيئية و الثقافية سيكون له مردودية مضاعفة على التحول الديمقراطي في تونس فهو الذي سيقحم أطيافا واسعة من الفاعلىن الإجتماعيين داخل ساحة النضال المدني السلمي ويمكنهم من الإندماج في الفعل السياسي اي في إستراتيجية البناء الديمقراطي ثم هو الذي يجعل من مبدأ العدالة الإجتماعية اساس هذا البناء . ويربط بين الحرية والتنمية .ويضفي على مدلول حقوق الأنسان دلالة التضامن الجماعي والخير المشترك
فالخروج من الفقر و البطالة و التمتع بالأجر اللائق والتغطية الصحية و الإجتماعية يجعل من قيمة الحرية قيمة خلاقة ويحرر طاقات كل المجتمع و يساعده على تجاوز معيقات التقدم الكامنة فيه . مدخل الحقوق الإجتماعية اليوم إذن مدخل محدّد في تمدد القاعدة المجتمعية للمشاركة السياسية محليا ووطنيا لأنه الكفيل بجعل المواطنين ذاتهم يتعهدون حقوقهم بوعي ذاتي وتعبئة ذاتية دون وصاية ويجعلهم يتصدون لمايراد للشان السياسي من تصحير بتحويله إلى حقل مسيج يحتكره محترفو العمل السياسي والمؤثرون إعلاميا وماليا ويحولهم بدورهم هذا إلى قوة بناء ودمقرطة للحياة السياسية عبر دخولهم كمواطنين مجال الدفاع عن حقوقهم الفعلىة التي ترتبط بحياتهم اليومية . ونحن حين نعاين اليوم عديد الحملات المواطنية و تبلور لشعارات مخصوصة من مثل ‘’ الشعب يريد عدالة جبائية ‘’ ‘’ الحق في طب الإختصاص داخل الجهات المحرمة ‘’ ‘’ حق العاملات في القطاع الفلاحي في النقل العمومي والأجر اللائق ‘’ الحق في البيئة السليمة .... فإننا بصدد متابعة تجليات تشكل هذا الوعي المواطني الإجتماعي الواسع خاصة .في أوساط الشباب والنساء بالخصوص ونرى فيه لبنات لديمقراطية إجتماعية ومحلية وتشاركية ممكنة.
ليست حقوق الإنسان بهذا المعنى اليوم إيديولوجيا بديلة تساهم في نفي شروط الفعل السياسي العام للاحزاب و النخب أو الحلول محلّه بل هي مدخل قيمي ومواطني حاسم بعلويته الأخلاقية في بناء دولة ديمقراطية و مجتمع تعددي وعادل و تشكيل وعي مواطني حر فضلا على أنها مدخلنا لكونية إنسانية أثبتنا جدارة الإسهام فيها .