نؤيد الإصلاح وعندما نشرع في الإصلاح ترتفع الأصوات الرّافضة. هذه مفارقات انتقالنا الدّيمقراطي التي تتجلّى بوضوح في قضيّة إصلاح المنظومة التربويّة.
هذا الإصلاح «المسكين» موضوع أهواء وتجاذبات. فمن مشكّك فيه من باب الإيمان بنظريّة المؤامرة. ومن متعال عليه من باب النّخبوية المتضّخمة. ومن مرتهن له بشخصه ونرجسيّته الضيّقة. ومن رافض له لأسباب إيديولوجيّة أو مصلحيّة.
وكلّ هذه المواقف تكاد تقتل هذا الحلم الذي بدأ يتشّكل مبنيّا على مبدأ المسؤوليّة الجماعيّة والمشروع الوطني الإصلاحيّ.
تجاذبات وصراعات ضيّقة تغطّي قضايا جوهريّة بدأ مسار الإصلاح التربويّ يطرحها ويبحث عن حلول لها مثل تردّي مستوى جودة التّعليم والمتعلّمين والمتعلّمات وأزمة المدرسة العموميّة وهجرتها إلى المدارس الخاصّة وتراجع تساوي الفرص في التعليم وتفاقم التسّرب والإقصاء وانقطاع المدرسة عن محيطها وغيرها من الظّواهر الخطيرة التي هوت بمدرستنا إلى أسفل ترتيب المدارس في العالم.
قد يذكر يوما مؤرّخو المرحلة الانتقاليّة في تونس تاريخ 23 أفريل 2015. بومها انطلق الحوار المجتمعيّ حول إصلاح المنظومة التّربويّة تحت قيادة وزارة التّربية الوطنيّة والاتحّاد العام التونسيّ للشغّل وشبكة عهد للثقافة المدنيّة يمثّلها المعهد العربي لحقوق الإنسان.هذه الشّبكة التي تضّم في عضويتها الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحّاد العام التونسيّ للشغّل والجمعيّة التونسيّة للنّساء الدّيمقراطيّات والنّقابة الوطنيّة للصحافيين والهيأة الوطنية للمحامين وجمعيّة القضاة والفرع التونسي لمنظّمة العفو الدوليّة والشّبكة الأورو-متوسطيّة لحقوق الإنسان، أطلقت سنة 2013 حملة لإصلاح المنظومة التّعليميّة في تونس توّجت أعمالها بوثيقة «عهد تونس للتّربية ومدرسة المواطنة».
بدأ الحوار المجتمعي حول إصلاح المنظومة التربويّة إذا في شكل غير معهود ليجمع بين المؤسّسة الرسميّة والمجتمع المدني محاولا التّأليف بين الكفاءة والخبرة وتطلّعات المواطنات والمواطنين للمشاركة الواسعة في صنع القرار التربوي.
لقد سعت هذه المقاربة إلى إبراز صورة تونس الجديدة.صورة بلد يعيش مرحلة غير مسبوقة في تاريخه.مرحلة محاولة التخلّص من الاستبداد بالرأي والقرارات المسقطة وتجميع المبادرات التربويّة المبدعة وتحرير الطّاقات والكفاءات.
ولقد جسّدت لجنة القيادة هذه المقاربة التشاركيّة في طريقة تنظيم الحوار المجتمعي حول إصلاح المنظومة التربويّة. حوار كان في شكل استشارة وطنيّة تاريخيّة شارك فيها عدد كبير من التلامذة والتلميذات والإطار التربوي والإداري والأولياء ومنظمات المجتمع المدني والوزارات المعنية والأحزاب ومجلس نواب الشعب.
وقد صدرت نتائج الحوار المجتمعي في تقرير تأليفي وضع الأسس العامة لرؤيا الإصلاح التربوي وتوجّهات العمل المستقبليّة. ونوقش التقرير في مؤتمر وطني أفضى إلى إنشاء عدد من اللّجان بدأت العمل على مواضيع مثل القوانين والتّشريعات والبرامج والبناءات والتّجهيز ومعايير الجودة والتّربية الخصوصيّة وتكنولوجيا المعلومات والاتّصال والتّخطيط الاستراتيجي والماليّة والبحوث والدّراسات والتّجديد والعلاقات والشّراكة والإعلام والزّمن المدرسي والحياة المدرسيّة والتّوجيه المدرسي والجامعي والحوكمة.
هذه بعض محطّات بدايات مسار الإصلاح التربوي الذي مازال يشقّ طريقه ويحتاج إلى مزيد من التجويد والبناء لنبلغ رؤية لمدرسة تونسيّة اعتبرها «الكتاب الأبيض» لإصلاح المنظومة التربوية أساس مشروع مجتمعي وحضاري جديد « وقائدة ركب التحولات المعرفيّة والعلميّة والتكنولوجيّة والاقتصاديّة الرّاهنة والمقبلة». مدرسة تصنع الذّكاء والفرص ومنفتحة على العلم وقائمة على الإدماج والمساواة. مدرسة عموميّة تنبني على مجانيّة التعليم وتسعى لتطوير الفكر النقدي وقبول الآخر والإيمان بالمواطنة والتنوّع.مدرسة تبدع المعرفة وتكوّن مواطنات ومواطنين يساهمون في بناء مجتمع أكثر عدالة وتضامناً ومساواة.
ولكن التجاذبات والتصريحات غير المحسوبة عواقبها قد بدأت تحيد بالإصلاح عن مساره وتوهم الرأي العام أنّ كل نتائجه قد أعلنت وهي فاقدة للنّظرة الشّاملة و مجزّأة.
و لقد أصبح الغموض والتردد والارتباك في التعامل مع الإصلاح خطرا على المسار ذاته وتحوّل «الكذب» على الإصلاح جزءا من الحقيقة. فالّذين ينادون باعتماد نظرة شاملة للإصلاح لا يعلمون أن المقاربة الشّاملة هي ما تبتغي الوصول إليه اللّجان الفنيّة في نهاية أعمالها. و الذين يطالبون باعتماد جودة التّعليم أساسا للإصلاح لا يعلمون أن الجودة هي غاية العمليّة كلها. و الّذين يطالبون بعدم التسرّع في الإصلاح لا يعلمون أن المسار مازال في بداياته.
إن الخروج من حلقة الأوهام و التّجاذبات والمزايدات يتطلّب وقفة تأمّل شجاعة من كل الأطراف المسؤولة عن الإصلاح.وقفة تُعلي قيمة المصلحة الوطنيّة لإنقاذ ما بُذل من مجهودات في الأشهر الأخيرة. وقفة تستعيد المبادئ التي قام عليها عمل لجنة قيادة الإصلاح التربوي وتثبّت أسسها وتؤكد على ما يلي:
• اعتبار الإصلاح التربوي مشروعا وطنيّا مشتركا والالتزام بحمايته من كلّ التّجاذبات والصّراعات ونزعات التوظيف.
• مواصلة عمل اللّجان الفنيّة في إطار رؤيا الإصلاح التي اعتمدت والسعي إلى التأليف بين كل المقترحات المستقبليّة لإبداع المقاربة الإصلاحيّة الشّاملة.
• تجويد النتائج الأولية للإصلاح بمواصلة النهج التّشاركي وتنظيم حوارات واستشارات للمعنيين والمعنيات بالشّأن التربوي واستدعاء الكفاءات على تنوعها للمساهمة في بناء المشروع الوطني النّهائي.
• الابتعاد عن الارتجاليّة في الإعلام بمسار الإصلاح وصياغة خطّة إعلاميّة مبدعة وفعّالة تعود بالمسار إلى أسئلته وقضاياه الحقيقيّة وتفتح أبواب الحوار المجتمعي الشّامل حول الإصلاح.
لقد بدأت لجنة قيادة الإصلاح التربوي مسارا تشاركيّا ووفّرت فرصة لبناء رؤية مجتمعيّة جديدة لمدرسة الجودة والمواطنة.
فلا يجب أن نخسر هذا المسار في خضّم الصراعات العقيمة. ولا يجب أن نضحّي بمصلحة البلاد وأجيالها القادمة في عمى صراعات العباد.