حتى نفهم ما يجري وكيف يجري ونحو أيّ هدف يجب أن نجري.
إنّ المقاربة الأقرب إلى الواقعية لفهم ما نحن بصدده هي المقارنة بين السنوات الأولى للإستقلال و ارتقاء بلادنا إلى السيادة بالسنوات التي تلت الثورة و تخلّص شعبنا من الإستبداد واسترجاعه للبعض من حريته وشيئا من كرامته.
إنّ هذه المقاربة قد تساعدنا على توظيف تجربة الماضي لإيجاد حلول لمشاكل الراهن و بالرغم من أنّ التاريخ لا يعيد نفسه فإنّ دروس التاريخ متى تمّ استيعابها على أحسن وجه تيسّر لنا السبيل للمضي قدما إلى الأمام.
منعطف مؤتمر صفاقس
تونس لم ترتق إلى الإستقلال يوم غرة جويلية 1954 عندما جاء الزعيم الاشتراكي الفرنسي ورئيس مجلس الوزراء منداس فرانس و أعلن على رؤوس الملأ حق الشعب التونسي في تقرير مصيره، ولم تستقل يوم غرة جوان يوم عودة الزعيم الحبيب بورقيبة من المنفى .. تونس استقلّت يوم تحقق بناء الكتلة التاريخية مجسّدة في الحزب الحر الدستوري بقيادة زعيمه بورقيبة والإتّحاد العام التونسي للشغل بقيادة الزعيم الشاب أحمد بن صالح ومنظمة الأعراف بقيادة الفرجاني بالحاج عمّار وكذلك منظمة الطلبة والنساء وحتى الفلاّحين بالرغم من انخراط منظمتهم في المشروع المعارض للكتلة التاريخية التي حكمت تونس على مدى ست عشريات مصحوبة أحيانا ببعض الهزات والأزمات. تلك الكتلة تشكّلت خلال مؤتمر صفاقس ونعني مؤتمر الحزب الدستوري الّذي نظم تحت رعاية نقابية عمّالية في مدينة صفاقس أيّام 15 - 18 نوفمبر 1955.
هذا المؤتمر التاريخي أفرز كتلة تاريخية مجسّدة في المنظمات والقوى التي ذكرنا سابقا وهي قوى تمكنت من الفوز بكافة مقاعد المجلس التأسيسي ضمن قائمات الجبهة الوطنية في انتخابات 25 مارس 1956 أي تحديدا أربعة أشهر بعد المؤتمر وقد ضمّت هذه القائمة 22 نائبا نقابيا من مجموع 98 نائبا وأتاحت أن يكون أمين عام الإتحاد نائبا لرئيس المجلس المحلي التأسيسي ورئيس لجنة صياغة الدستور، والأهمّ من كل ما سبق هو تبنّى المؤتمر المذكور البرنامج الإقتصادي والإجتماعي للإتّحاد وذلك حتى قبل أن يتبناه مؤتمر الاتّحاد الذي انعقد في سبتمبر 1956.
المفارقة في كل هذا أنّ الحزب الوطني الذي كافح من أجل تحرير البلاد وقادها مظفّرا إلى الإستقلال الداخلي وبعد ذلك إلى الإستقلال التام وصولا إلى الجلاء عن بنزرت ورمادة و إسترجاع حوالي ثلاثة أرباع مليون هكتار من الأراضي الزراعية وجد نفسه مدافعا عن برنامج إقتصادي صاغه قادة جيل من النقابيين الدستوريين حتما لكنهم تربوا في معظمهم في صفوف النقابات اليسارية وتشبّعوا بالفكر الإشتراكي و«تعاهدوا على بناء مجتمع متوازن على مستوى التعليم والإقتصاد وبعيدا عن....