ألبير قصيري
-----
يعد المبدع التونسي محمد بوحوش ، واحدا من أبرز كتاب القصة القصيرة جدا التي أبدع فيها بحرفية ملفتة ، وأقام لها ملتقى عربيا حتى أمست تلازمه كما ظله ، دشنها بباقة قصصية أولى وسمها ب" مائة قصة قصيرة جدا" 2012 ، ثم توالت بعدها باقاته القصصية الوامضة كالتالي : "عناقيد الدهشة " 2015، "ضحك أسود " 2017، "أضراس الليل9" 2018 ، "عطس ونباح " 2020،و" أقفاص وعصافير 1" التي صدرت له عام 2021 عن المطبعة الثقافية بالمنستير ، وتشمل 139قصة قصيرة جدا موزعة على 104صفحة من القطع المتوسط .
ولعل أول ما يلاحظ ، بشأن هذه البروق القصصية المعنونة ب" أقفاص وعصافير " ، حضور موضوعة العنف بدلالتيها المادية والرمزية المتنوعة ، وبصيغ حكائية متجددة تعزف ثقافة العصر وإيقاعه ، وهو ما يؤثث كلماتها القصصية " بتر ،غارة ، قطع ، شنق ، أطفأها ، خنقه ، تعذيب ، تقليم ، انقض ، نهشه ، كسر ،هشمت ، شجار ، قتلت ،مقطعة ، أعدمها ، اقتلع ، انتحار ، شنق ،السطو ، جريمة ، بدمائه"
فما الذي يعنيه العنف لغة واصطلاحا ؟ وما هي تجلياته وأشكاله؟ وكيف جسّدته في " أقفاص وعصافير"؟
يعرف لسان العرب العنف لغة بالخرق بالأمر وقلة الرفق به ، واعتنف الأمر : أخذه بعنف ، أما اصطلاحا فيُعرّف العنف على أنّه تطبيق قوة بدنية والتسبب في إلحاق الأذى بالآخرين ، وقد يكون هذا الأذى جسدياً، أو نفسياً، أو كليهما، وإن اختلفت طرقه وتعدّدت نواياه.
وعليه ، عرف مفهوم العنف مقاربات عدة " نزلت بكل ثقلها في تحليل مفهوم العنف ومقاربته وإيجاد الحلول له ، فمن المقاربة الفلسفية مرورا بالمقاربة السيكولوجية والسوسيولوجية والتاريخية ، ورغم ذلك لم تستطع هذه المباحث وضع خطاطة شاملة للحد من العنف"2
ولما كان هذا العنف سرطانا فقد تطور إلى شر جذري وإرهابي منظم ، فتك بالعباد مخلفا وفرة من الشهود وعديدا من الضحايا بمئات الملايين .
وعطفا على ما سبق ، سنحاول الوقوف على اشتغال موضوعة العنف داخل هذه التجربة القصصية البرقية والوامضة والقشيبة .
في قصة " الضحية " ، يتجسد العنف شفافا في قفلتها المتطابقة القائمة على التضاد والطباق، التي يتقابل من خلالها الزخم الجماهيري ومظاهرات الشارع احتفالا بالثورة ، والضربة القاصمة لهذه الاحتفالية ، تعبيرا ودلالة عن رؤية محبطة لكل فعل ثوري يروم تغيير ما هو كائن بما ينبغي أن يكون، يقول السارد في الصفحة 6:
"كان يركض في شارع المدينة ، بيد يمسك علم الوطن ، وباليد الأخرى يمسك شعلة ، عندما استيقظ في الصباح لم يجد قدميه اللتين بترهما طبيب العظام" .
وعليه ، تصبح الثورة حقلا لاستنبات القمع وإحباط التحرر ، عبر استخدام العنف المسلح إذ" لا يمكن أن تكون هناك ثورة بدون استخدام العنف " تقول حنا أرندت .
أما في قصة " اعتراف" فنعاين كل أشكال العنف السادي والمهين للكرامة الإنسانية ، كتقييد اليدين والرجلين ، البصاق في الفم6 ، إطفاء السيجار في الخصيتين ومحاولة الخنق نقرأ للسارد في الصحة 23:
"وضعه على الكرسي ، قيد يديه ورجليه ، أرخى رأسه إلى الوراء ، فتح له فمه ، بصق فيه ، أشعل سيجارة، أطفأها في إليتيه ، وضع على فمه كمامة ، حاول خنقه حتى خرج لسانه ، ومع كل حصة تعذيب ، يظل صامدا مطلقا قهقهة عالية"
وتبعا لذلك ، بدل الخضوع التلقائي الذي يرغب فيه الجلادون تساوقا مع أنواع التعذيب ، يتعثرون بالصمود والتهكم والسخرية السوداء ، مما يربك حساباتهم ويضعهم بين فكي القهقهة المريرة لتكون :" عنصر احتجاج و عنصر تخريب وعنصر تدمير وعنصر رفض ، وهي مواصفات الفكاهة أصلا خصوصا الفكاهة السوداء " 3
ونفس الاصطلاء بآلة القمع الناتج عن تغوله حد التقتيل يحضر في قصة "" يقول السارد في الصفحة 9:
"أمام مقر الحكومة ، اعتصموا ، رفعوا لا فتات كثيرة ، لا فتة مكتوب عليها " لو كان الفقر رجلا لقتلته " .. لم تمض ساعة واحدة حتى حاصرهم البوليس ، فقتلوا .. وبقي الفقر"
لا أحد ينكر ، إذن ، أن هذا النص كتب بهدف الاستشهاد على مأساة إنسانية ومناخ سياسي معتل ، برغبة التطهر من الفقر ، بيد أن الضريبة كانت فعلا استشهاديا ، وبقيت الخصاصة منتصبة وجاحظة العينين أدووا عنها الثمن .
أما قصة "المصير المحتوم فتجسد " شكلا من أشكال الاغتصاب أو العنف الجنسي ، الذي ينتهك حرمة المرأة رغما عنها :
"كانت تمنح جسدها الفاتن لكل من هب ودب ، لكنها بعد سنوات امتنعت عن منح جسدها له ، كانت تقاوم غير أنه كان شرسا ، فانقض على جسدها ، ونهشه حتى كان المص9ير الذي لا مفر منه " ص326
وعليه ، يتسرب الإيذاء الجنسي والانتهاك الشنيع للمرأة في هذه النص عبر قاموس لغوي تداول على نحو يومي في مجتمعاتنا الذكورية مرارا وتكرارا :" شرسا ،انقض، نهشه " ، تعبيرا عن انتهاكات حقوق الإنسان، ولن تنجم عن سوى عواقب جسدية واقتصادية ونفسية خطيرة قصيرة وطويلة الأجل على الضحية.
وتفسح قصة " فشل " المجال للعنف الانتحاري الذي يهدف إلى إلحاق الموت بالذات شنقا ، نقرأ في الصفحة :" فشل في الدراسة ، فشل في الزواج ، فشل في العثور على عمل ، فشل في كل شيء ، لكنه قرر في الختام أن ينجح في أمر واحد : انتحاره شنقا " ص51
اللقطة المقدمة في هذه الومضة القصصية ، تعمد إلى ضغوطات الفشل المتعدد في الحياة ، والتي أفرزت انهيارا للذات على التعامل مع ومن ثمة انتاج اندفاعات وحلول انتحارية، والميل نحو تخليص الذات من ثقل الحياة .
في القصة المعنونة ب" خصام" ، يجعلنا القاص نتعرف على ظاهرة أخرى من ظواهر العنف، ظاهرة العنف المنزلي نموذجا للإساءة بين الشريكين اللذين يعيشان تحت سقف واحد ، يقول السارد :
"تشاجرا ...
هو : هم بقول شيء ، فلم يستطع ، كسر آنية الزهر
هي " همت أيضا بقول شيء ، ولم تستطع ، هشمت المرآة .
الراوي : شجار بين زوجين أبكمين " ص 37
والمتأمل في هذه الومضة القصصية يلاحظ التهاب التوتر والقلق بين زوجين أبكمين عن طريق السخرية التي تظل على الرغم من ذلك بعدا جليا من أبعاد السلوكات الإنسانية التي تختلط بمشاعر مما يجعل هذه السخرية الهادفة مضمخة بالألم والحزن .
في قصته "العائد من الحرب " ، نقرأ عنفا بالغ الشدة والشراسة ، وفي أقصى وأعلى مراتبه ، إنه عنف الحرب ، الذي يدمر الحياة والوجود ، يعطب ضحاياه ويمحو ذواكرهم يقول السارد : " أخبروها بأنه سيعود غدا ... لقد انتهت الحرب .. غمرها الفرح ، وهي تتهيأ لإطلالته ...جاء على كرسي متحرك ... عاد على كل حال ، قالت ... بعد قليل أدركت أنه فاقد للذاكرة أيضا " ص 91
أما في قصة "يقين بارد" ، فيطالعنا محمد بوحوش بجرأته المعهودة ، فيثير موضوع عدم الانتصاب " العنانة" الذي ي يدخل في نطاق المسكوت عنه ، لكن طريقة فنية رائعة تنتهي بعنف موجع ، يتمثل في قطع شخصية القصة العضو التناسلي احتجاجا على هذا الارتخاء و العجز الجنسي :
"كان متأكدا من .. لكن يقينه البارد خانه . إذ لم يتمكن ، بعد مرور أشهر على زواجه ، من أن .. لذلك قرر بتر عضوه " ص61
بخصوص التبنين الجمالي للقصص يثير انتباه القارئ مايلي :
- كثرة استعمال القاص لتقنية الحذف و نعني به " إسقاط جزء الكلام أو كله ، لأن القصة القصيرة جدا تقوم أساسا على الحذف الإبداعي مع ما يتطلبه من إيحاء وقصر واقتصاد في القول ، وهذا من شأنه توريط المتلقي في بناء النص ، وجعله قادرا على التفاعل الإيجابي معه.
- القصر وتفادي الإسهاب والحشو ، والتوظيف العارف للإيجاز والتكثيف الذي يضمن جمالية النص وانفتاحه ، ومن ثم، تجنب الإطناب وكوليسترول الحكي .
انطلاقا من كل ما سبق ، نؤكد أن القاص محمد بوحوش يحمل في أعماقه هاجس الإبداع، ويحاول بكل ما لديه من حرفية وحنكة إبداعية تأتي بالجديد المدهش من خلال سمات جمالية متنوعة صادمة لوجدان و فكر القارئ.
بقلم عبد الله المتقي
سردية العنف في قصص " أقفاص وعصافير" للتونسي محمد بوحوش
- بقلم المغرب
- 15:15 29/12/2025
- 28 عدد المشاهدات
العنف لا يتناسب مع هذا العالم الهزلي