أكبر احتفال ثقافي في بلادنا سواء من ناحية عدد التونسيين الذين يواكبون هذا الحدث أو من ناحية أجواء الفرحة التي يدخلها على العاصمة وأيضا من ناحية أهمية فنّ السينما كفنّ جامع .
المسابقة الرسميّة للأفلام الروائية الطويلة تشهد هذه السنة مشاركة أفلاما مهمّة مثل الفيلمين التونسيّين المتوّجين في مهرجانين كبيرين وهما فيلم " صوت هند رجب" لكوثر بن هنية والذي توّج بثاني أكبر جائزة في مهرجان البندقية الأخير و أيضا فيلم " سماء بلا أرض" لأريج السحيري والذي حصد منذ أيام قليلة النجمة الذهبية لمهرجان مراكش الدولي أو الفيلم النيجيري " ظلّ أبي " والمتوّج بالكاميرا الذهبية في آخر دورة لمهرجان كان السينمائي مناصفة مع الفيلم العراقي"مرطبات الرئيس " للمخرج حسن هادي الغائب الأبرز لهذه الدورة.
يبدو من خلال هذه التكريمات العالمية الأخيرة وغيرها أن جزءا من أهداف مؤسّسي المهرجان وعلى رأسهم الراحل الطاهر شريعة من خلال بعث هذه الأيام والتي كانت تتمثل في إعطاء السينما العربية والإفريقية حيزا من الاهتمام العالمي قد تحققت .
كما ستشهد الأيّام أقساما موازية لعلّ أهمها تكريم المخرج الجزائري محمد لخضر حامينة الذي غادرنا هذه السنة وهو صاحب السعفة الذهبية الوحيدة لإفريقيا والوطن العربي في مهرجان كان و التي تحصل عليها سنة 1975 عن فيلمه الرائع " وقائع سنوات الجمر"والذي وقع انجاز نسخة مرمّمة له بمناسبة مرور 50 سنة على تتويجه عرضت في باريس في المدة الأخيرة وهي جائزة سبقتها جائزة أخرى مهمة تحصل عليها نفس المخرج وفي نفس المهرجان سنة 1966وهي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم عن فيلمه الرائع الآخر " رياح الاوراس"وهذان الفيلمان سيقع عرضهما خلال هذه الأيّام .
عندما أكتب عن أيّام قرطاج السينمائية فان الذاتي يمتزج بقوّة بالموضوعي ان كان للموضوعي دور عند الحديث عن الفن السابع .
بدأت علاقتي بالسينما مثل أغلب التونسيين بمشاهدة الأفلام المصرية على الشاشة الصغيرة وأيضا عبر أفلام أسبوعية لجاكي شون وبروسلي كانت تبرمج بدار الثقافة والتي كانت تسمّى آنذاك بدار الشعب ولكن جائتني إشارة أولى مختلفة وأنا في المدرسة الإعدادية من أستاذ الرياضيات الذي نصحنا خلال إحدى دورات أيام قرطاج السينمائية بحضور بعض الأفلام قائلا إن أفلام المهرجان لا تتاح مشاهدتها دائما،فهمت آنذاك ان هناك أفلاما تختلف عن تلك التي اعتدت مشاهدتها وأنّ فرص عرضها نادرة ولكن لم يكن سنّي ولا تجربتي في ذلك الوقت يسمحان بأن أعرف بالضبط ماهية الاختلاف وطبيعة الأفلام التي تحدث عنها استأذنا .
الصدفة وحدها وضعتني بعد سنوات قليلة أمام شريط "صمت القصور" للمخرجة مفيدة التلاتلي والذي شعرت اثر مشاهدته بشيء أو اثر ما عظيم يتخلّلني من الداخل وهذا الشيء لا يمكن إرجاعه إلى طبيعة القصة وحدها أو تقنيات الصورة أو براعة الممثلين ولكن إلى شيء آخر جامع يمثّل مجموعة كبيرة من العناصر تخلق بتآلفها وتناسقها فرجة تترك بداخلك صدمة عميقة ولطيفة في آن واحد تجعلك تتعلق أكثر فأكثر بهذا الفن.
منذ ذلك التاريخ بدأت قصّة طويلة وصامتة كان هدفها البحث عن ذلك الأثر اللطيف الذي شعرت به اثر مشاهدتي لفيلم صمت القصور حملتني رويدا رويدا إلى غياهب هذا الفن وأهمّ أفلامه وأروع مخرجيه وقد كانت أيام قرطاج السينمائي ولازالت إحدى أهم المناسبات التي احرص على اقتناصها وذلك عبر مختلف أقسام المهرجان مثل قسم سينما العالم او قسم التكريمات .
وأغلب قاعات العاصمة وأحوازها التي تحتضن اليوم أفلام المهرجان كانت لي معها قصص وذكريات جميلة لأفلام رائعة شاهدتها فشريط "رياح الاوراس" شاهدته لأوّل مرة بقاعة ابن رشيق بالعاصمة وهو يصوّر بلغة سينمائية مؤثرة قصة معاناة وبحث لأم جزائرية عن ابنها الوحيد الذي اعتقلته قوات المستعمر الفرنسي وقد تعرفت لأول مرّة على المخرج الألماني "فيم فندرس" في قاعة الفن الرابع عبر شريطه "أجنحة الرغبة"والذي صوّر قصة نزول ملاك إلى الأرض وشاهدت شريطه" باريس تكساس" المتوج بالسعفة الذهبية في مهرجان كان في قاعة قرطاج وعدت إلى قاعة الفن الرابع لأشاهد فيلم "التضحية" للمخرج الأول في روسيا "اندري تركوفسكي".
أما قاعة الكوليزي فقد شاهدت فيها فيلم المخرجة اللبنانية نادين لبكي الأخير "كفر ناحوم" الذي لاقى عند عرضة الأول في مهرجان كان قبولا حسنا وإذا طلب منّي أن أذكر 3 أقوى أفلام عربية فسيكون هذا الفيلم إحداها وسأضيف فيلمي صمت القصور لمفيدة التلاتلي و شريط رياح الاوراس لمحمد الأخضر حامينة .
ولي مع أيام قرطاج ذكريات وطرائف كثيرة منها أنّي وجدت نفسي يوما في نفس صف اقتناء التذاكر خلف مخرج تونسي معروف وهو سي علي العبيدي رحمه الله وكان حينها مترددا في اختيار أي فيلم يشاهده وقد أقنعته وقتها بمشاهدة فيلم المخرجة السنغالية الشابّة" ماتي ديوب" وعنوانه "اتلنتيك "والذي حاز في تلك السنة الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان كان ودخلت بنفس الفيلم المسابقة الرسمية لمهرجان قرطاج .
"ماتي ديوب" عادت مرة أخرى إلى قرطاج بفيلم وثائقي اسمه " داهومي "يتحدث عن التراث العائد إلى افريقيا بعد نهبه من قبل الاستعمار وكان أحرز كذلك جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين.
هذه المخرجة الشابة التي يبدو أنها تحب تونس ومهرجاننا أنا أدعو إلى تكريمها ولا أدري إن وقع التفكير في إشراكها في إحدى لجان تحكيم المهرجان .
وفي نفس إطار ذكرياتي مع المهرجان استطيع أن أذكر تعرفي لأول مرة على مخرجين لهم طابع خاص ومسيرة خاصة مثل المخرج الفلندي "أكي كاريسماكي"الذي تتسم أفلامه بديكور يعود إلى ستينات القرن الماضي يظهر حنينه إلى تلك الفترة أما من ناحية مواضيع أفلامه فهي تظهر بوضوح انحيازه إلى قضايا المهاجرين في أوروبا أو المخرج الإيراني "عباس كيرستامي"التي تتسم أفلامه بالطابع الصوفي في علاقة بالريف الإيراني .
في الأخير أريد أن أنوّه ببرمجة أفلام بالجهات الداخلية من منطلق حق كل مواطن أينما كان على التعرف على سينما المؤلف خاصة في ظل غياب نوادي السينما في أغلب معتمدياتنا الداخلية ...
بقلم: نبيل بن إبراهم
أستاذ رياضيّات مميّز ومفكّر في مجال علاقة التربية بالثقافة
أيام قرطاج السينمائية أو البحث عن شيء ما في هذا الفنّ...
- بقلم المغرب
- 15:17 16/12/2025
- 35 عدد المشاهدات
نعيش هذه الأيام دورة جديدة لأيام قرطاج السينمائية