أخطاء محمودة

في حين ننساق في تعداد الخسائر من اعتقالات

ومحاكمات كادت أن تطال جميع التوجهات السياسية في البلاد، فإن أسئلة مهمة لا تنفك تطرح باستحياء، أو بوضوح ولكن لا تلبث عصبيات ما أن تغطي عليها. هل يمكن تحميل سلطة قيس سعيد المسؤولية الكاملة عما يحصل؟ إجرائيا، لا شك في ذلك مطلقا، لكنني لا أطرح السؤال من ناحية إجرائية. ينبغي أن نتفق على شيء، وهو أنه لا يمكن لوم سلطة تسلّطية على تسلّطها. فإذا أمكن حقيقة لومها، فهذا يعني أنها بريئة من تسلّطها، أو أنها سقطت فيه سهوا. لسنا اليوم في هذا الوارد بطبيعة الحال. نحن بإزاء سلطة لا تنكر نزعتها التسلّطية، بل ترفعها كما يرفع ملاكم راية وطنية.
أخلاقيا، هناك حرج ما من لوم الضحايا، من مساجين و"متآمرين" يقبعون زرافات ووحدانا على شبكة سجون الوطن، لا تستطيع بسهولة أن تقول لهم أنهمأيضامسؤولونعما يحدث لهم ولهذه الرقعة الترابية التي تسمى أحيانا وطنا. هناك قفزة صعبة بين اللحظة التي تعتبرهم فيها ضحايا نظام كالذي يفرض نفسه اليوم علينا، وبين تلك التي تعتبرهم فيها مسؤولين عما حدث ويحدث وسيحدث. ولكننا نحتاج في لحظة ماإلى الخروج عن الدور الذي ترسمه لنا سلوكات السلطة، دور العداد الذي لا يتوقف، والذي يبتلعنا لقمة بعد أخرى. في كل تلك السجون اليوم أصدقاء أعزاء، وخصوم سياسة أو فكر، رفضوا الإلتقاء وأعرضوا عن تبادل الأفكار، ورفضوا، في جانب كبير منهم، أن يناقشوا إمكانية أن يكونوا قد أخطأوا في قراءة ما وموقف ما، فجمعهم نظام اليوم رغما عنهم في السجون. وهذه من الفرص التي يمنحها الاستبداد لخصومه، والتي ينبغي أن يقع استغلالها في مسار المقارعة الذي فرضه عليهم. هل بدأ عمل ما في هذا الإتجاه؟ شكوكي إزاء ذلك كثيرة. هذه هي المسؤولية التي أحملها للضحايا المعتقلين، وهي مسؤولية وقعت على بعضهم بعد الإعتقال، وعلى بعضهم الآخر قبله.
أعتقد أن التغيير الحقيقي يبدأ عندما نشرع في مراجعة أنفسنا وأخذ ما يلزم من مسافة إزاء ذواتنا. عند ذلك فقط نكون مستعدين للإلتقاء بخصومنا بعد أن يكونوا قد جربوا هم أيضا المسافة، واختبروا أنفسهم. هناك عمل لم يبدأ بالجدية المطلوبة حتى الآن، وطالما أنه لم يبدأ، فإن الخلاص سيظل بعيد المنال. وإذا اتفقنا أن السلطة اليوم، وفاء لطبيعتها الاستبدادية، تسعى للحيلولة دون أي من هذه المساعي، فإنه ينبغي الاقتناع بأن المعطل الحقيقي لهذا الجهد يقبع في ضفة المعارضة. كل أولئك الذين يضعون شروطا على المشاركين في مسيرة أو مظاهرة، كل أولئك الذين يرغبون في اختيار أجوارهم بناء على شهادات حسن سلوك يمنحونها هم أنفسهم، كل الذين ينتقون تضامنهم مع المعتقلين والمحاكمين، كل مسؤولي محطات الفرز، هم أنصار طبيعيون للمنظومة التي يتظاهرون ضدها. هل ينبغي ترك مصير البلاد لهم؟ وإذا ما قلنا أن ذلك لا يجوز، فكيف يمكن إحباط النتائج الطبيعية لسلوكهم المحبط والذي يؤخر الخلاص؟ عن طريق شجاعة استثنائية يقدم السياسيون الدليل على أنهم جديرون باقترافها: نقدهم الذاتي. هل هذا كثير؟ أقرأ أحيانا من يكتب أن عائلة سياسية ما لا يجب أن تسقط في الفخ، وأن من يريد أكل الثوم فعليه أن يأكله بأسنانه هو، فيتحمل رائحته وطعمه بنفسه. هذا من الأدلة على أن الخلاص لا يزال بعيد المنال.
في الوقت الذي يرفض فيه السياسيون الإلتقاء، وقبل ذلك أخذ المسافة تجاه تجربة العشر سنوات التي يسميها الورديون بالسوداء، ويشترطون أن يراجع خصومهم أنفسهم قبل أن يدخلوا هم هذا الطريق، يحصل في الساحة تحول محمود. لا يمكن للاستبداد ألا يرتكب أخطاء، ولا يستطيع أن يمنع أن يكون بعضها قاتلا: حث الخطى، عبر نوعية اعتقالات جديدة، نحو بناء رموز جديدة: كان اعتقال أحمد صواب أحد هذه الأخطاء، واليوم يأتي اعتقال العياشي الهمامي ليرسخ هذا المسار. في نظر السلطة، لا خيار سوى وضع أي رموز مزعجة وراء القضبان، ولو إلى حين. هذا هو المنطق الذي يأسر سلوكها اليوم. استهلكت السلطة تقريبا كل وجوه "العشرية السوداء" في محاكمات التآمر أو التسفير أو الحرب على الفساد أو المرسوم 54. ولأنها سلطة تعرف ما تفعل، فلا يمكنها أن تصمد أمام إغراء الحكم دون معارضين أو مشككين أو ناقدين أو حتى ساخرين، وهنا فلا يمكن إلا أن تقع في الأخطاء القاتلة.
أعتقد أن الزج في السجون بأمثال أحمد صواب والعياشي الهمامي هو أحد تلك الأخطاء، وأن ما نجحت فيه عبر اعتقال قيادات حزبية أو مسؤولين سابقين سيتحول بالنسبة إلىها إلى صداع مزمن، حتى وإن بدا لها الأمر الآن على خلاف ذلك. أتحدث هنا عن رموز من خارج الساحة السياسية التقليدية، بقدرة محترمة جدا على التجميع والدفع نحو اتفاقات أخلاقية بين مختلف العائلات السياسية، وهذا حتما أحد أسباب الزج بهم في السجن. هذه هي وجوه اليوم التالي، التي ستجبر جميع المترددين على الجلوس حول طاولة واحدة، وقيادة مرحلة جديدة بأقل أخطاء ممكنة، وبوعد عدم ارتكاب نفس الأخطاء مرة أخرى، وعدم النزول مجددا تحت الحد الأدنى في أي حياة ديمقراطية حقيقية. سيستغرق ذلك بعض الوقت، ولكنني أراه كما أرى الحروف على هذه الورقة التي تحت قلمي.
بقلم: عدنان المنصر

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115